وفي ظل هذه الذكرى ، وارتجاف القلوب من تصورها ، يقودهم إلى النظر في تصميم السماوات والأرض ؛ وتنسيق هذا الكون ؛ وما يبدو وراء هذا التنسيق من قصد وصدق وتدبير :
( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون . إن
يوم الفصل ميقاتهم أجمعين . يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون . إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم ) . .
واللفتة لطيفة ، والمناسبة بين خلق السماوات و الأرض وما بينهما وبين قضية البعث والنشور مناسبة دقيقة . ولكن الفطرة البشرية تدركها في يسر حين توجه إليها مثل هذا التوجيه .
والواقع أن تدبر ما في خلق السماوات والأرض من دقة وحكمة وقصد ظاهر وتنسيق ملحوظ ، وخلق كل شيء بمقدار لا يزيد ولا ينقص عن تحقيق الغاية من خلقه ، وتحقيق تناسقه مع كل شيء وحوله ، وظهور القصد في خلق كل شيء بالقدر والشكل الذي خلق به ، وانتفاء المصادفة والبعث في أي جانب صغر أو كبر في تصميم هذه الخلائق الهائلة وما فيها من خلائق دقيقة لطيفة .
الواقع أن تدبر هذا كله يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فلا عبث فيه ؛ وأنه قائم على الحق فلا باطل فيه . وأن له نهاية لم تأت بعد ، ولا تجيء بالموت ، بعد هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب . وأن أمر الآخرة ، وأمر الجزاء فيها حتم لا بد منه من الناحية المنطقية البحتة لهذا التصميم المقصود في بناء هذه الحياة وهذا الوجود . حتى تتحقق به النهاية الطبيعية للصلاح والفساد في هذه الحياة الدنيا . هذا الصلاح وهذا الفساد اللذان ركب الإنسان على أساس الاستعداد لهما ؛ وظهور جهده هو وإرادته في اختيار أحدهما ، وتلقي جزاء هذا الاختيار في نهاية المطاف .
يقول تعالى مخبرًا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل ، كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ] ، وقال { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 ، 116 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين}، يعني عابثين لغير شيء، يقول: لم أخلقهما باطلا، ولكن خلقتهما لأمر هو كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما خَلَقْنَا السّموَاتِ السبع والأرضين وما بينهما من الخلق لَعِبا. وقوله:"ما خَلَقْناهُما إلاّ بالحَقّ" يقول: ما خلقنا السموات والأرض إلاّ بالحقّ الذي لا يصلح التدبير إلاّ به. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره التنبيه على صحة البعث والمجازاة، يقول تعالى ذكره: لم نخلق الخلق عبثا بأن نحدثهم فنحييهم ما أردنا، ثم نفنيهم من غير الامتحان بالطاعة والأمر والنهي، وغير مجازاة المطيع على طاعته، والعاصي على المعصية، ولكن خلقنا ذلك لنبتلي من أردنا امتحانه من خلقنا بما شئنا من امتحانه من الأمر والنهي "لِنَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا وَنجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بالحُسْنَى".
"وَلَكِنّ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ "يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أن الله خلق ذلك لهم، فهم لا يخافون على ما يأتون من سخط الله عقوبة، ولا يرجون على خير إن فعلوه ثوابا لتكذيبهم بالمعاد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} وقال في آية أخرى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} [ص: 27] إن الكفرة كانوا لا يُطلقون القول، فلا يقولون: إن الله تعالى خلقهما، وخلق ما بينهما باطلا ولعبا لكن خلق ذلك كله على فُتْياهم وظنّهم وعلى [ما] عندهم يصير عبَثا باطلا؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون: أن لا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب.
فإذا كان فُتياهم وظنهم أن لا بعث ولا نشور يكون خلقهم وخلق السماء والأرض وما ذكر باطلا لعبا؛ لأن المقصود بخلق ما ذكر على زعمهم لم يكن إلا الإفناء والإهلاك. ومن لم يقصد في بنائه إلا النقض في الشاهد والإفناء في العاقبة كان في بنائه وقصده سفيها غير حكيم.
فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى في خلقه إياهم وإنشائه لهم وتحويله إياهم من حال إلى حال أخرى من حال النطفة إلى حال العلقة إلى حال المُضغة إلى حال تصوير الإنسان ثم إلى حال الكِبرِ؛ لو لم يكن ما ذكرنا من المقصود سوى الإفناء والإهلاك على ما زعموا، كان سَفها باطلا غير حكمة لما ذكرنا من قصْد من قَصَد في البناء الإفناء خاصة لا غير؛ كان في فعله وقصده لاعبا عابثا سفيها.
ولذلك سفّه الله تعالى تلك المرأة التي لم يكن قصدها في غزلها إلا نقضه في العاقبة حين قال: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} الآية [النحل: 92] فعلى ذلك خلق الخَلْق إذ لم يكن بعث ولا نشور على ما قال أولئك الكفرة، وظنّوا كان كذلك سَفَها غير حكمة.
ولذلك قال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115] جعل خَلقه إياهم لا للرجوع إليه عبثا، والله الموفّق.
ثم إنه تعالى ذكر الدليل القاطع على القول بالبعث والقيامة، فقال: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} ولو لم يحصل البعث؛ لكان هذا الخلق لعبا وعبثا، وقد مر تقرير هذه الطريقة بالاستقصاء في أول سورة يونس، وفي آخر سورة {قد أفلح المؤمنون} حيث قال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} وفي سورة ص حيث قال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهم باطلا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير للاستدلال على الجزاء الذي جامعه التكفل بجميع أنحائه يوم القيامة: فإنا ما خلقنا الناس عبثاً يبغي بعضهم على بعض ثم لا يؤاخذون، عطف عليه ما هو أكبر في الظاهر منه فقال: {وما خلقنا السماوات} أي على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها، وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد من العبث مع أن إدراك تعددها مما يقتضي المشاهدة بما فيها من الكواكب، ووحد في سورة الأنبياء تخصيصاً بما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته لما ذكر هناك من اختصاص (لدن) بما بطن.
ولما كان الدليل على تطابق الأراضي دقيقاً وحدها فقال: {والأرض} أي على ما فيها من المنافع.
{وما بينهما} أي النوعين وبين كل واحدة منها وما يليها.
{لاعبين} أي على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعاليها عن اللعب؛ لأنه لا يفعله إلا ناقص، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً، بل اللعب أخف منه، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين لصفة القدوسية، فإنه "لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها بالحق من قويها غير متعتع -رواه ابن ماجة عن أبي سعيد وابن جميع في معجمه عن جابر، وصاحب الفردوس عن أبي موسى رضي الله عنهم رفعوه، وهو شيء لا يرضى به لنفسه أقل حكام الدنيا، فكان هذا برهاناً قاطعاً على صحة الحشر ليظهر هناك الفصل بالعدل والفضل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
اللفتة لطيفة، والمناسبة بين خلق السماوات و الأرض وما بينهما وبين قضية البعث والنشور مناسبة دقيقة. ولكن الفطرة البشرية تدركها في يسر حين توجه إليها مثل هذا التوجيه. والواقع أن تدبر ما في خلق السماوات والأرض من دقة وحكمة وقصد ظاهر وتنسيق ملحوظ، وخلق كل شيء بمقدار لا يزيد ولا ينقص عن تحقيق الغاية من خلقه، وتحقيق تناسقه مع كل شيء وحوله، وظهور القصد في خلق كل شيء بالقدر والشكل الذي خلق به، وانتفاء المصادفة والبعث في أي جانب صغر أو كبر في تصميم هذه الخلائق الهائلة وما فيها من خلائق دقيقة لطيفة، الواقع أن تدبر هذا كله يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فلا عبث فيه؛ وأنه قائم على الحق فلا باطل فيه. وأن له نهاية لم تأت بعد، ولا تجيء بالموت، بعد هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب وأن أمر الآخرة، وأمر الجزاء فيها حتم لا بد منه من الناحية المنطقية البحتة لهذا التصميم المقصود في بناء هذه الحياة وهذا الوجود، حتى تتحقق به النهاية الطبيعية للصلاح والفساد في هذه الحياة الدنيا. هذا الصلاح وهذا الفساد اللذان ركب الإنسان على أساس الاستعداد لهما؛ وظهور جهده هو وإرادته في اختيار أحدهما، وتلقي جزاء هذا الاختيار في نهاية المطاف...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى} [الدخان: 34، 35] ردّاً عليهم كما علمته آنفاً، والمعنى: أنه لو لم يكن بعثٌ وجزاءٌ لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما عبثاً، ونحن خلقنا ذلك كله بالحق، أي بالحكمة كما دل عليه إتقان نظام الموجودات، فلا جرم اقتضى خلق ذلك أن يجازَى كل فاعل على فعله وأن لا يضاع ذلك، ولما كان المشاهد أن كثيراً من النّاس يقضي حياته ولا يرى لنفسه جزاء على أعماله؛ تعيّن أن الله أخّر جزاءهم إلى حياة أخرى؛ وإلا لكان خلقهم في بعض أحواله من قبيل اللعب.
وذكر اللعب توبيخ للذين أحالوا البعث والجزاء بأنهم اعتقدوا ما يفضي بهم إلى جعل أفعال الحكيم لعباً...