وجملة { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم ، وجئ بها مؤكدة ، لتقوية تحقيق وقوع الجواب ، وما وعدوا به هو البعث والحساب .
أى : وحق الرياح المرسلة لعذاب المشركين . . وحق الملائكة الذين نرسلهم بوحينا للتفريق بين الحق والباطل ، ولتبليغ رسلنا ما كلفناهم به . . إنكم - أيها الكافرون - لمبعوثون ومحاسبون على أعمالكم يوم القيامة الذى لا شك فى وقوعه وحصوله وثبوته .
والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا . فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا : عذرا أو نذرا . . إن ما توعدون لواقع . .
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها ؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى الموكدات في مواضع منه شتى . وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم ، ، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها ، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا . فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية ، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية . وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة ، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا . . ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول .
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع . وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب ، وقواه المكنونة ، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر . وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها . فقال بعضهم : هي الرياح إطلاقا . وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا . وقال بعضهم : إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة . . مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها . وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله . وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر .
( والمرسلات عرفا ) . . عن أبي هريرة أنها الملائكة . وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات ، والسدي والربيع بن أنس ، وأبي صالح في رواية [ والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أرسالا متوالية ، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها ] .
وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات . . إنها الملائكة .
وروي عن ابن مسعود . . المرسلات عرفا . قال : الريح . [ والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها ] وكذا قال في العاصفات عصفا والناشرات نشرا . وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية .
وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفا هل هي الملائكة أو الرياح . وقطع بأن العاصفات هي الرياح . وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء .
وعن ابن مسعود : ( فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ، عذرا أو نذرا )يعني الملائكة . وكذا قال : ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف . فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل . وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار .
ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا . وفي النازعات غرقا . . وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها . وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا . وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام . وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها ، والظلال المباشرة التي تلقيها . وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها . . وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة ، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا ، وهو يستجوبه عن ذنب ، أو عن آية ظاهرة ينكرها ، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد : ( ويل يومئذ للمكذبين ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما توعدون} من أمر الساعة {لواقع} يعني لكائن، ثم ما يكون في ذلك اليوم أنه لكائن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والمرسلات عرفا، إن الذي توعدون أيها الناس من الأمور لواقع، وهو كائن لا محالة، يعني بذلك يوم القيامة، وما ذكر الله أنه أعدّ لخلقه يومئذ من الثواب والعذاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"إنما توعدون لواقع" فهذا موضع جواب القسم بما ذكر من المرسلات إلى آخرها ثم كان الموعود، هو البعث، فمعناه: أن الذي يوعدون به من البعث لكائن على الجزاء والعقاب؛ فتأويله: إن ما توعدون به من العذاب لنازل بكم. فتكون الآية في قوم، علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تمت هذه الأقسام مشتملة على أمور عظام منبهة على أن أسبابها من الرياح والمياه كانت مع الناس وهم لا يشعرون بها كما أنه يجوز أن تكون القيامة كذلك سواء بسواء، قال- ذاكراً للمقسم عليه مؤكداً لأجل إنكارهم: {إنما} أي الذي.
{توعدون} أي- من العذاب في الدنيا والآخرة، ومن قيام الساعة ومن البشائر لأهل الطاعة، وبناه للمفعول لأنه المرهوب لا كونه من معين مع أنه معروف أنه مما توعد به الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
{لواقع} أي كائن لا بد من وقوعه وأسبابه عتيدة عندكم وإن كنتم لا ترونها كما في هذه الأشياء التي أقسم بها وما تأثر عنها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَوَاقِعٌ} أي: متحتم وقوعه، من غير شك ولا ارتياب.
فإذا وقع حصل من التغير للعالم والأهوال الشديدة ما يزعج القلوب، وتشتد له الكروب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إن ما توعدون لواقع} جواب القسم وزيدت تأكيداً ب {أنَّ} لتقوية تحقيق وقوع الجواب.
و {إنَّما} كلمتان هما (إنَّ) التي هي حرف تأكيد و (ما) الموصولة وليست هي (إِنَّما) التي هي أداة حصر، والتي (ما) فيها زائدة. وقد كتبت هذه متصلة (إِنَّ) ب (ما) لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين، والرسم اصطلاح، ورسم المصحف سُنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره.
و {ما توعدون}: هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية.
والخطاب للمشركين، أي ما تَوعَّدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه.
والواقع: الثابتُ، وأصل الواقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيهاً بالمستقر.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء، فإنّ ظرافة الموضوع تكمن في أنّ مواضيع الأيمان السابقة تُعتبر بحدّ ذاتها دلائل للمعاد، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا نموذج ممّا يحدث في المعاد، ثمّ نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل ممّا لا يكون الهدف منه واضحاً ومفهوماً إلاّ بوجود المعاد، وهذا يُشير إلى أنّ واقعة البعث أمر حتمي.
وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (23) من سورة الذاريات إذ يقول الله
تعالى: (فوربّ السماء إنّه لحق) القسم بالربّ يعتبر إشارة إلى أنّ ربوبية الربّ وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.