{ وَيَنصُرَكَ الله } - تعالى - { نَصْراً عَزِيزاً } أى : نصرا قويا منيعا لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، لأنه من خالفك الذى لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه . .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يرى أن الله - تعالى - قد أكرم نبيه - صلى الله عليه وسلم - إكراما لا يدانيه إكرام ، ومنحه من الخير والفضل ما لم يمنحه لأحد سواه .
( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطا مستقيما ، وينصرك الله نصرا عزيزا ) . .
تفتتح السورة بهذا الفيض الإلهي على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : فتح مبين . ومغفرة شاملة . ونعمة تامة . وهداية ثابتة . ونصر عزيز . . إنها جزاء الطمأنينة التامة لإلهام الله وتوجيهه . والاستسلام الراضي لإيحائه وإشارته . والتجرد المطلق من كل إرادة ذاتية . والثقة العميقة بالرعاية الحانية . . يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها . وتبرك الناقة ، ويتصايح الناس : خلأت القصواء . فيقول . " ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلى أعطيتهم إياها " . . ويسأله عمر بن الخطاب في حمية : فلم نعطي الدنية في ديننا ? فيجيبه : " أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " . . ذلك وحين يشاع أن عثمان قتل يقول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . . ويدعو الناس إلى البيعة ، فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا .
وكان هذا هو الفتح ؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية ، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة :
كان فتحا في الدعوة . يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه . إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنتين " بين صلح الحديبية وفتح مكة " مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر .
قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله . ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف .
وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
وكان فتحا في الأرض . فقد أمن المسلمون شر قريش ، فاتجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي - بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة - وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام . وقد فتحها الله على المسلمين ، وغنموا منها غنائم ضخمة ، جعلها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيمن حضر الحديبية دون سواهم .
وكان فتحا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها . يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه : [ سيرة الرسول . صور مقتبسة من القرآن الكريم ] :
" ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق . بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية ، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده ، أو بالأحرى من أعظمها . فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما ، واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها ، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين ، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم ، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة . ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب ، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة ، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر . وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة ، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون . بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه .
" ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيما فعل ، وأيده فيه القرآن ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه . إذ قووا في عيون القبائل ، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار ، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة ، وإذ صار العرب يفدون على النبي[ صلى الله عليه وسلم ] من أنحاء قاصية ، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام ، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء ، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها ، وكان في ذلك النهاية الحاسمة ، إذ جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا " . .
ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك - إلى جانب هذا كله - فتح آخر . فتح في النفوس والقلوب ، تصوره بيعة الرضوان ، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن . ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : محمد رسول الله . والذين معه . . . الخ . فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه ، وله دلالته ، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ .
ولقد فرح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بهذه السورة . فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه . فرح بالفتح المبين . وفرح بالمغفرة الشاملة ، وفرح بالنعمة التامة ، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم . وفرح بالنصر العزيز الكريم . وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل . وقال - في رواية - : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها " . . وفي رواية : " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " . . وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته . فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة ، تقول عنها عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه ، فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
{ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } أي : بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك ، كما جاء في الحديث الصحيح : " وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " {[26764]} . وعن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[26765]} أنه قال : ما عاقبت - أي في الدنيا والآخرة - أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه .