التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا} (3)

بسم الله الرحمان الرحيم

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ( 1 ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( 2 ) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( 3 ) } .

تعليق على الآية

{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا }

والآيتين التاليتين لها وعلى مدى جملة { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وخلاصة عما ورد في الروايات من ظروف ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها .

الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المفسرين وبقرينة الآيات نفسها . ويستلهم منها أنها مطلع تمهيدي لما احتوته السورة وقد تضمن هذا المطلع :

( 1 ) تنويها بعظم الفتح الذي يسره الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم .

( 2 ) وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يسره الله له من الفتح هو وسيلة إلى غفران الله ذنوبه السابقة واللاحقة وإتمام نعمته عليه وتوفيقه إلى أقوم الطرق ، ونصره في النهاية نصرا عزيزا لا مثيل له . ومع أن هناك من ذهب إلى أن الفتح المذكور هو فتح مكة{[1920]} فإن الأكثر على أنه صلح الحديبية{[1921]} وقد جاء هذا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالذات إن صح الحديث المروي عن مجمع ابن حارثة الذي أوردناه قبل ، وهو مؤيد بالأحاديث التي ذكرت أن نزول الآيات إنما كان في أثناء سفرة الحديبية . وبينها وبين فتح مكة عامان . ولقد روى الزمخشري عن موسى ابن عقبة حديثا آخر مؤيدا لذلك أخرجه البيهقي جاء فيه ( أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه : ما هذا بفتح لقد صدونا عن البيت ، وصد هدينا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم القضية . ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا ) .

وصيغة الآيات وروحها ومضمونها يدل على أنها نزلت على سبيل تطمين نفوس المسلمين وإيذانهم بأن ما كان قد كان فتحا مبينا ، ومقدمة لنصر قوي عظيم ينالونه تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم .

وملخص الروايات الواردة في قصة سفرة الحديبية وصلحها هو ما يلي{[1922]} : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه زار الكعبة ، فاعتزم زيارتها واستنفر إلى ذلك المسلمين ، وخرج في نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وثلاثمائة ، وساق معه الهدي ( الأنعام التي ستذبح قرابين أثناء الزيارة ) وكان ذلك في أواخر العام الهجري السادس ، وفي شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم ، وقد يدل هذا على أنه أراد الحج أيضا ؛ لأن الزيارة كانت في موسم الحج ، فلما وصل إلى مكان اسمه ذو الحليفة أحرم وأمر المسلمين بالإحرام وأشعر الهدي ( جرحه ليسيل دمه وهذا علامة على أنه هدي لله ) ووضع في أعناقه القلائد ( وهي علامة ثانية على ذلك ) وكانت أخبار مسيرة قد وصلت إلى قريش ، فهاجوا وثارت نفوسهم ، وتعاهدوا على منعه ، وأخذوا يستعدون للحرب ، حتى لقد أرسلوا كتيبة فرسانهم بقيادة خال ابن الوليد بسبيل ذلك . وجاء زعيم خزاعة إلى النبي ، وكان له نصوحا فقال له : إن قريشا جمعوا لك جموعا وجمعوا الأحابيش وهو مقاتلوك وصادوك عن البيت . فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فأشاروا عليه بالمضي إلى قصده الذي ألهمه الله به فإذا صدتهم قريش قاتلوهم إلى أن يحكم الله بينهم ثم تقدم وتقدموا ، حتى إذا وصلوا إلى الحديبية وهي قرية أو بئر على نحو مرحلة من مكة بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، فألهم بوجوب التوقف في المكان فتوقف وقال : ( والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله وما فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها ) وقد أرسل النبي رئيس خزاعة إلى قريش يخبرهم أنه إنما جاء معتمرا ولم يجيء مقاتلا ، ويدعوهم إلى المهادنة والسماح له بالزيارة والتخلية بينه وبين العرب ، فإن هلك كفوا مؤونته ، وإن أظهره الله كانوا بالخيار إن أرادوا دخلوا فيما دخل فيه الناس . وينذرهم إذا أمعنوا في العناد والبغي أنه سوف يقاتلهم حتى تنفرد سالفته ( أي حتى يطيح رأسه عن عنقه ) ولينفذ الله أمره . فذهب الرجل وأبلغ الرسالة وكان عروة ابن مسعود الزعيم الثقفي حاضرا ، فنصحهم بقبول ما اقترحه وطلب منهم أن يأذنوا له ليأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ويكلمه فأذنوا فجاء فكلمه ، فقال له ما قال للزعيم الخزاعي . فقال له : أي محمد أرأيت إن استأصلت قوماك هل سمعت بأحد من العرب فعل ذلك قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك ، فصرخ به أبو بكر : امصص بظر اللات أنحن نفرعنه وندعه ؟ فعاد عروة فقال لقريش : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي . والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، إذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فظلوا في ترددهم وترادت رسل أخرى بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من جانبه عثمان ابن عفان رضي الله عنه ليخبر الناس برغبة النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال ورغبته في الزيارة وحسب . والظاهر أنه اختاره لقوة عصبيته في مكة ؛ حيث يمت إلى بني أمية . وقد أبطأ في العودة ، وشاع أن قريشا حبسوه أو قتلوه . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة على الثبات والاستمانة إذا أصرت قريش على البغي . وتمت البيعة تحت شجرة استظل النبي صلى الله عليه وسلم بظلها ، فسميت بيعة الشجر ، ولم يلبث عثمان أن رجع وإن تم رأي قريش على إرسال سهيل ابن عمرو أحد زعمائهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم على عقد هدنة مزودا بشروط أملتها عليهم الأنفة والحمية الجاهلية . منها تأجيل الزيارة إلى العام القابل . وعدم حملهم في يوم الزيارة إلا سيوفهم في أغمادها وإعادة من يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهما مسلما برغم أهله . وعدم إعادة من يفر من المدينة إلى مكة مرتدا . وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الشروط بعد مفاوضات عديدة حتى كادت في وقت أن تنقطع ويشتبك الفريقان في القتال ، بل وحدث شيء من ذلك ؛ حيث حاول بعض خيالة قريش وشجعانهم أن يأخذوا النبي والمسلمين أو فريقا منهم على غرة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من كمن في طريقهم ، وتمكن من أسر فريق منهم ، ثم أطلق سراحهم إيذانا برغبته عن الشر . وانتهت المفاوضات إلى اتفاق على أن تكون مدة الهدنة عشر سنوات ، وكتب في ذلك عقد ختمه النبي صلى الله عليه وسلم بخاتمه ، ووقعه سهيل عن قريش . وحينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام ثم آذن بالعودة . وقد روي فيما روي أن أبا جندل ابن سهيل ابن عمرو_ المفاوض_ وقد كان أسلم ، فحبسه أبوه وقيده_ استطاع أن يفر ويجيء إلى النبي والمسلمين يرسف في أغلاله حينما درى أنهم في الحديبية ، وكان التراضي على الشروط قد تم ، فاحترم النبي صلى الله عليه وسلم ما تم ورد أبا جندل إلى أبيه ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أؤرد إلى المشركين يفتونني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا وخرجا{[1923]} . إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم . ومما اتفق عليه أن تخير قبيلتا خزاعة وبني بكر اللتان كانتا نازلتين حول مكة وبينهما عداء في الانضمام إلى أي طرف من الطرفين فتكونا داخلتين في عقد الصلح فانضمت خزاعة إلى طرف النبي صلى الله عليه وسلم وانضمت بنو بكر إلى طرف قريش . وروي كذلك أن النبي حينما أخذ يملي العقد على علي ابن أبي طالب هكذا ( هذا ما تم عليه الاتفاق بين محمد رسول الله ) اعترض سهيل وأبي أن يذكر محمد إلا باسمه واسم أبيه فقط ، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ومحا ما كان أملاه ، ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشرط الذي شرطته قريش رد من يأتي إليهم من المدينة من ذهب منا مرتدا ، فلا رده الله ولسنا بحاجة إليه .

ومما روي من الشروط التي قبل بها النبي صلى الله عليه وسلم قد ثقلت على فريق من المؤمنين من جملتهم عمر ابن الخطاب وأذهلتهم وكادت تزيغهم . ولا سيما أنه أعلن أنه رأى في منامه أنه يزور الكعبة مع المسلمين ، وكانوا يعرفون أن رؤياه حق .

وقد راجعوه وحاوروه ، ومنهم من تباطأ في تنفيذ أمره في نحر الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام ، ولكنه آذنهم أنه إنما يسير بإلهام الله . وثبت نفوسهم حتى عاودتهم الطمأنينة ، ولم تلبث السورة أن نزلت مثبتة مطمئنة مبشرة ومؤيدة لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبرم . وقد ورد هذا أيضا في أحاديث صحيحة أوردناه في مقدمة السورة .

والروايات متسقة إجمالا مع ما احتوته آيات سورة الفتح من إشارات لم تستهدف القصة والإخبار وإنما استهدفت العظة والإرشاد والتثبيت والتطمين جريا على الأسلوب القرآني . كما أن الأحداث التي وقعت بعد صلح الحديبية حققت صدق إلهام النبي صلوات الله عليه فيما فعل وقال ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين والإسلام من هذا الصلح ، حتى ليصح أن يعد من الأحداث العظمى الحاسمة في تاريخ الإسلام وقوته وتوطده أو بالأحرى من أعظمها وتحققت بذلك معجزة القرآن في وصفه بالفتح المبين .

فبالإضافة إلى ما كان من اعتراف قريش بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم كرئيس الدولة الإسلامية واعتبارهم إياه ندا وتراجعهم عن عدائهم الشديد له وكانوا قبل سنة زحفوا مع أحزابهم في عشرة آلاف مقاتل على المدينة لاستئصال شأفته وشأفة الإسلام والمسلمين . وما كان في ذلك فرض شخصية النبي ودينه والمسلمين وتوطيد كيانهم واسمهم وهيبتهم عليهم ، فإن ذلك كله كان أيضا بالنسبة لسائر العرب الذين كانوا يعتبرون مكة إماما وقدوة . كما أنه أتاح للنبي صلى الله عليه وسلم فرصة توسيع نطاق دعوته وإيصالها إلى مناطق وبيئات عديدة في أطراف الجزيرة وما وراءها ، والاستمتاع بحرية الحركة والسفر والاتصال بالقبائل وتصفية القرى اليهودية التي كان أهلها يناصبون المسلمين العداء في طريق الشام وكانت حالة العداء والحرب بينه وبين أهل مكة وما والاها حائلة دون ذلك كله . ثم كان ممهدا للفتح الأكبر أي فتح مكة الذي انهدم به السور الذي كانت تضربه مكة بين الدعوة وسائر أنحاء الجزيرة العربية ، وقد كان بعض هذه النتائج فورية ؛ حيث زحف النبي صلى الله عليه وسلم على قرى اليهود واكتسحها{[1924]} عقب عودته من الحديبية ، وأرسل رسله ورسائله كذلك إلى ملوك فارس والروم ومصر وملوك وأمرائهم وزعمائهم في أنحاء الجزيرة وخارجها فور عودته كذلك{[1925]} ولم يلبث أن جاء الرد الإيجابي من ملوك عمان والبحرين وزعماء اليمن ، وبعض أمراء الغساسنة وعمالهم ؛ حيث بعثوا يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم وإذعانهم{[1926]} وأخذت وفود العرب ورجالاتهم يفدون إلى المدينة من مختلف الأنحاء ليدخلوا في دين الله{[1927]} ومن جملة من فعل ذلك رجلان من مشاهير رجال قريش وهما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما{[1928]} .

ولقد روى الشيخان عن جابر قال : ( قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض وكنا ألفا وأربعمائة ، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة ) {[1929]} وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا تبشير أصحابه وتطمينهم ، وقد يلمح فيه أيضا قصد التساوق مع التلقين القرآني بالتنويه بالفتح المبين الذي تم في هذا اليوم للنبي والمؤمنين والله تعالى أعلم .

هذا ، ولقد تعددت الأقوال في تخريج وتأويل جملة { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } من ناحية النحو ومن ناحية المتناول{[1930]} فمما قيل من الناحية الأولى أنها بمعنى كي يجتمع لك مع الفتح المغفرة وتمام النعمة بالهداية والنصر كما قيل : إنها بمعنى أن الفتح كان سببا للمغفرة وتمام النعمة ؛ لأنه جهاد للعدو وفيه الثواب والمغفرة والرضاء الرباني وكلا القولين وارد ووجيه ، وصيغة الآية تحتمل القولين .

ومما قيل من الناحية الثانية : إنها بمعنى ما فرط منك قبل وما يمكن أن يفرط منك بعد من هفوات صغيرة ، أو أنها بمعنى ما كان منك أو ما يمكن أن يكون من سهو وغفلة واجتهاد يكون غير الأولى في علم الله ، أو إنها على طريق التوكيد كما يقال : أعط من تراه ومن لم تره ، فيكون معناها ما وقع منك ، وما لم يقع هو مغفور لك .

ومما قيل والمقصود هو ذنب آبائه من لدن آدم وذنوب أمته ومما رواه المفسر الطبرسي الشيعي عن جعفر الصادق وأبي عبد الله من الأئمة وهو أغرب ، قولهم ( والله ما كان له ذنب ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي ما تقدم منها وما تأخر ) .

وما عدا القولين الأخيرين الغربيين ، فإن كلا من الأقوال الأخرى لا يخلو من وجاهة وإن كان الأوجه فيما نرى هو ( ما كان وما يمكن أن يكون من سهو وغفلة واجتهاد يكون غير الأولى في علم الله ) فلفظ الذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم يجب في الحقيقة أن يصرف إلى ما كان يقع وما يمكن أن يقع منه من مثل ذلك مما لم يكن فيه وحي ومن غير قصد الإثم . وروح الفقرة وإطلاقها حتى تتناول السابق واللاحق تلهم هذا المعنى ، ولقد وردت في القرآن آيات فيها إشارات إلى وقوع مثل ذلك وعتاب عليه وأمر للنبي بالاستغفار فيه على ما جاء في آيات سورة عبس ( 1 10 ) والنساء ( 106 109 ) الأنفال ( 67 69 ) والتوبة ( 43 و 113 ) ومحمد ( 19 ) وغافر ( 54 ) على سبيل العظة والتعليم والتنبيه ولما يقتضيه مقام النبوة وجلالها وفي الإيذان هنا بغفرانها للنبي صلى الله عليه وسلم سواء ما كان منها قبل وما يمكن أن يكون منها بعد ينطوي تدعيم لذلك ؛ حيث علم الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكنه كبشر أن يتفادى مثل هذه الاجتهادات أو لا يقع منه غفلة وسهو . أما الإثم المقصود فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عنه قطعا بما كان من نعمة الله عليه بالاصطفاء والارتفاع إلى مقام النبوة وما كان عليه من عظمة الخلق التي نوه بها القرآن بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة .

على أنه مما يتبادر لنا أن الجملة وسائر الآية الثانية والآية الثالثة معا قد جاءت بسبيل توكيد خطورة ما تم . وبعد مداه وفوائده وبسبيل البشرى والتطمين والتثبيت والتأييد الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف الذي وقفه من بدئه إلى نهايته . والله أعلم .


[1920]:روى هذا البغوي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس
[1921]:انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنسفي الخ
[1922]:انظر ابن هشام ج 3 ص 353 ت 371 وابن سعد ج 3 ص 139 ـ 151 وتاريخ الطبري ج 2 ص 270 ـ 284 وتفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والبغوي
[1923]:من طريف ما رواه ابن هشام في سياق قصة الحديبية: أن مسلما آخر اسمه أبو بصير كان محبوسا مضيقا عليه في مكة مثل أبي جندل، واستطاع أن يلفت ويلتحق بالنبي في المدينة بعد قليل من عودته من الحديبية، وأرسلت قريش تطالب النبي برده حسب العهد فقال له رسول الله ما قاله لأبي جندل، وسلمه للرسول الذي جاء من قريش. واستطاع في الطريق أن يغتال هذا الرسول وينجو ويعود ثانية إلى المدينة، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بما فعل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد) على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤوه؛ لئلا يعتبر ذلك نقضا منه فخرج إلى جهة مكة وأخذ يجتمع إليه أمثاله، حتى بلغوا سبعين وصاروا يضيقون على قريش: لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوه حتى كتبت قريش للنبي تقول له: لا حاجة لنا بهم وتسأله بأرحامها إلا أن آواهم وزواهم عنهم
[1924]:تاريخ الطبري ج 2 ص 303 ـ 306 وابن هشام ج 3 ص 376 - 400 وابن سعد ج 3 ص 152
[1925]:ابن سعد ج 2 ص 23 ـ 27 وابن هشام ج 4 ص 278 ـ 280
[1926]:ابن هشام ج 4 ص 279 وابن سعد ج 2 ص 27 ـ 56
[1927]:ابن سعد ج 2 ص 71 ـ 112 ـ 221
[1928]:ابن هشام ج 3 ص 319
[1929]:التاج ج 4 ص 382 والشجرة هي التي بايع المسلمون النبي تحتها يوم الحديبية وقد أشير إلى ذلك في آية من آيات السورة
[1930]:انظر كتب التفسير السابقة الذكر