معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

قوله تعالى : { والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } وأراد بالعذاب الحد ، كما قال في أول السورة : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } أي : حدهما ، ومعنى الآية : أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا ، وإذا وجب عليها حد الزنا بلعانه فأرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن ، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم بأربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به . ولا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها ، ولو أقام الزوج بينة على زناها فلا يسقط الحد عنها باللعان . وعند أصحاب الرأي : لا حد على من قذف زوجته ، بل موجبه اللعان ، فإن لم يلاعن يحبس حتى يلاعن ، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة عن اللعان حبست حتى تلاعن . وعند الآخرين اللعان حجة على صدقه ، والقاذف إذا قعد عن الحجة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة . وعند أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب ، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعاً ، وقضاء القاضي . وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم وبه قال الشافعي : وتلك الفرقة متأبدة حتى لو كذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه دون ما له ، فيلزمه الحد ويلحقه الولد ولكن لا يرتفع تأبيد التحريم . وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا أكذب الزوج نفسه جاز له أن ينكحها . وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل في تعلق الحكم به . فكل من صح يمينه صح لعانه حراً كان أو عبداً ، مسلماً أو ذمياً ، وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن ، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم . وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين ، فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقاً أو ذمياً أو محدوداً في قذف فلا لعان بينهما . وظاهر القرآن حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ، لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون أزواجهم } ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره كما قال : { الذين يظاهرون من نسائهم } ثم يستوي الحر والعبد في الظهار ، ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته . ويغلظ اللعان بأربعة أشياء : بعدد الألفاظ ، والمكان ، والزمان ، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس . أما الألفاظ المستحقة فلا يجوز الإخلال بها ، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وفي سائر البلاد ففي المسجد الجامع عند المنبر ، والزمان هو أن يكون بعد صلاة العصر ، وأما الجمع فأقلهم أربعة ، والتغليظ بالجمع مستحب ، حتى لو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز ، وهل التغليظ بالمكان واجب أو مستحب ؟ فيه قولان .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

وتزيد في الخامسة ، مؤكدة لذلك ، أن تدعو على نفسها بالغضب ، فإذا تم اللعان بينهما ، فرق بينهما إلى الأبد ، وانتفى الولد الملاعن عليه ، وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان ، منه ومنها ، واشتراط الترتيب فيها ، وأن لا ينقص منها شيء ، ولا يبدل شيء بشيء ، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته ، لا بالعكس ، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به ، كما لا يعتبر مع الفراش ، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

وقوله - سبحانه - { والخامسة } بالنصب عطفا على { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } .

أى : يدرأ عنها العذاب إذا شهدت أربع شهادات بالله أن زوجها كاذب فيما رماها به ، ثم تشهد بعد ذلك شهادة خامسة مؤداها : أن غضب الله عليها ، إن كان زوجها من الصادقين ، فى اتهامه إياها بفاحشة الزنا .

وجاء من جانب المرأة التعبير بقوله - تعالى - : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } ليكون أشد فى زجرها عن الكذب ، واعترافها بالحقيقة بدون إنكار ، لأن العقوبة الدنيوية أهون من غضب الله - تعالى - عليها فى حالة كذبها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص :

( والذين يرمون أزواجهم ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) . .

وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج ، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ؛ وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا ، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها ، وطلقت منه طلقة بائنة ، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ؛ وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد ، وتبين من زوجها بالملاعنة ؛ ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل{[20798]} وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء ، { إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى ، { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وحرمت عليه أبدًا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ، { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ولهذا قال : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ }

يعني : الحد ، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا ا فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور ، وهي تعلم صدقه فيما رماها به . ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها . والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه .

ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه ، ورأفته بهم ، وشرعه{[20799]} لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق ، فقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : لحرجتم{[20800]} ولشق عليكم كثير من أموركم ، { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ } [ أي ]{[20801]} : على عباده - وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة - { حَكِيمٌ } فيما يشرعه{[20802]} ويأمر به وفيما ينهى عنه .

وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية ، وذكر سبب نزولها ، وفيمن نزلت فيه من الصحابة ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا يزيد ، أخبرنا عَبَّاد بن منصور ، عن عكْرمَة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - : هكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ " قالوا : يا رسول الله ، لا تَلُمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قَطّ [ إلا بكرًا ، وما طلق امرأة له قط ]{[20803]} فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، من شدة غيرته . فقال سعد : والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ، ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . قال : فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم - فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يُهَيّجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني . فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ، واشتدّ عليه ، واجتمعت الأنصار فقالوا{[20804]} : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن أمية ، ويبْطل شهادته في المسلمين{[20805]} . فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا . وقال هلال : يا رسول الله ، إني قد أرى ما اشتد عليك مما{[20806]} جئت به ، والله يعلم إني لصادق . فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك ، في تَرَبُّد وجهه{[20807]} . يعني : فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ }{[20808]} الآية ، فَسُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أبشر يا هلال ، قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا " . فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي ، عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلوا إليها " .

فأرسلوا إليها ، فجاءت ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما أن عذابَ الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا . فقال هلال : والله - يا رسول الله - لقد صَدَقتُ عليها . فقالت : كذب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاعنوا بينهما " . فقيل لهلال : اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كان في الخامسة قيل له : يا هلال ، اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها . فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل [ لها : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل ]{[20809]} لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى ألا [ بيت لها عليه ولا ]{[20810]} قوت لها ، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا مُتَوَفى عنها . وقال : " إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين ، فهو الذي رميت به " فجاءت به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " .

قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب .

ورواه أبو داود عن الحسن بن عليّ ، عن يزيد{[20811]} بن هارون ، به نحوه مختصرًا{[20812]} .

ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة . فمنها ما قال البخاري : حدثني محمد بن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن هشام بن حسان ، حدثني عِكْرِمَة ، عن ابن عباس ؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء ، فقال رسول الله{[20813]} صلى الله عليه وسلم : " البينة أو حَدُّ في ظهرك " فقال : يا رسول الله ، إذا أري{[20814]} أحدنا على امرأته رجلا ينطلقُ يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " البينة وإلا حدّ في ظهرك " . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن{[20815]} الله ما يُبرئ ظهري{[20816]} من الحد . فنزل جبريل ، وأنزل{[20817]} عليه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، فقرأ حتى بلغ : { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الله يشهد أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا : إنها مُوجبة . قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبْصِرُوها ، فإن جاءت به أكحلَ العينين ، سابغ الأليتين ، خَدَلَّج الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ " . فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " .

انفرد به البخاري من هذا الوجه{[20818]} وقد رواه من غير وجه ، عن ابن عباس وغيره .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي{[20819]} حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح - وهو ابن عمر - حدثنا عاصم - يعني : ابن كُلَيْب - ، عن أبيه ، حدثني ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله ، فرمى امرأته برجل ، فكره ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يُرَدّده حتى أنزل الله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [ إِلا أَنْفُسُهُمْ ] } {[20820]} [ فقرأ ]{[20821]} حتى فرغ من الآيتين ، فأرسل إليهما فدعاهما ، فقال : " إن الله ، عَزّ وجل ، قد أنزل فيكما " . فدعا الرجل فقرأ عليه ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه ، فقال له : " كل شيء أهون عليه من لعنة الله " . ثم أرسله فقال : { لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ثم دعاها بها ، فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : " ويحك . كل شيء أهون من غضب الله " . ثم أرسلها ، فقالت : { غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأقضينّ بينكما قضاء فصلا " . قال : فولدت ، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه ، فقال : " إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا ، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا " . فجاءت به يشبه الذي قُذفت به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جُبَير قال : سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما - في إمارة ابن الزبير ؟ فما دَرَيتُ ما أقول ، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلتُ : أبا عبد الرحمن ، المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال : سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تَكَلَّم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك . فسكت فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتُليت به . فأنزل الله عز وجل هذه الآيات{[20822]} في سورة النور : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ : { أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } . فبدأ بالرجل فوعظه وذكَّره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق ما كَذَبْتُك . ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق{[20823]} إنه لكاذب . قال : فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فَرَّقَ بينهما .

رواه النسائي في التفسير ، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان ، به{[20824]} وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس{[20825]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت عن غيظ ؟ والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فسأله . فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ؟ اللهم احكم . قال : فأنزل آية اللعان ، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به .

انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طُرُق ، عن سليمان بن مِهْران الأعمش ، به{[20826]} .

وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو كامل : حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال : سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله ، أيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائل . قال : فلقيه عُوَيمر فقال : ما صنعْتَ ؟ قال : ما صنعت ! إنك لم تأتني بخير ؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلأسألنه . فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما . قال : فدعا بهما فَلاعَن بينهما . قال عُوَيمر : لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد كذبت عليها . قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبصروها ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا " . فجاءت به على النعت المكروه .

أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي ، من طرق ، عن الزهري ، به{[20827]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن زيد{[20828]} بن يُثَيْع ، عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : كنت والله فاعلا به شرًا . قال : " فأنتَ يا عمر ؟ " . قال : كنتُ والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز ، وإنه خبيث . قال : فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ }

ثم قال : لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، ثم رواه من حديث الثوري عن [ أبي ]{[20829]} أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم{[20830]} .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي ، حدثنا مُخَلَّدُ بن الحسين ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لأول لعان كان في الإسلام أن شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك " ، فقال : يا رسول الله ، إن الله يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد . فأنزل الله آية اللعان : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ } إلى آخر الآية . قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى " فشهد بذلك أربع شهادات ، ثم قال له في الخامسة : " ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى " ، ففعل . ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى " . فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : " وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى " ، فقالت : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة ، حتى ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت على القول ، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال : " انظروه ، فإن جاءت به جَعْدًا حَمْشَ الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْماء ، وإن جاءت به أبيض سبطا فَضيء{[20831]} العينين فهو لهلال بن أمية " . فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا ما نزل فيهما من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " {[20832]} .


[20798]:- في أ : "الله تعالى".
[20799]:- في ف ، أ : "في شرعه".
[20800]:- في ف : "خرجتم".
[20801]:- زيادة من ف ، أ.
[20802]:- في أ : "فيما شرعه".
[20803]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20804]:- في ف : "فقالت".
[20805]:- في هـ : "ويبطل شهادته في الناس" والمثبت من ف ، أ ، والمسند.
[20806]:- في ف : "فيما".
[20807]:- في أ : "جلده".
[20808]:- في ف ، أ : (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله).
[20809]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20810]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20811]:- في ف : "زيد".
[20812]:- المسند (1/238) وسنن أبي داود برقم (2256).
[20813]:-[في ف ، أ : "النبي".
[20814]:- في ف ، أ : "رأى".
[20815]:- في ف : "ولينزل".
[20816]:- في ف : "ما يطهرني".
[20817]:- في ف : "فأنزل".
[20818]:- صحيح البخاري برقم (4747)
[20819]:- في أ : "الرمادي".
[20820]:- زيادة من أ.
[20821]:- زيادة من أ.
[20822]:- في أ : "الآية".
[20823]:- زيادة من ف ، أ. في ف ، أ : "والذي بعثك بالحق ما كذبتك".
[20824]:- المسند (2/19) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11357).
[20825]:- صحيح البخاري برقم (5312) وصحيح مسلم برقم (1493).
[20826]:- المسند (1/421) وصحيح مسلم برقم (1495).
[20827]:- المسند (5/334) وصحيح البخاري برقم (4745) وصحيح مسلم برقم (1492) وسنن أبي داود برقم (2245) وسنن النسائي (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (2066).
[20828]:- في أ : "يزيد".
[20829]:- زيادة من ف ، أ.
[20830]:- مسند البزار برقم (2237) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/74) : "رجاله ثقات".
[20831]:- في أ : "قضي قصير".
[20832]:- مسند أبي يعلى (5/207) ورواه مسلم في صحيحه برقم (1496) من طريق هشام ، عن محمد ، به

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

وقوله : والخامِسَةُ أنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها . . . الآية ، يقول : والشهادة الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين . ورفع قوله : والخامِسَةُ في كلتا الاَيتين ، ب«أنّ » التي تليها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

لما نزلت الآية المتقدمة في { الذين يرمون } [ النور : 4 ] تناول ظاهرها الأَزواج وغيرهن ، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني »{[8608]} ، وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها ، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك ابن سحماء البلوي ، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف ، فنزلت هذه الآية عند ذلك فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وتلاعنا فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت ، وقيل إنها موجبة ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم ولجت ، وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وولدت غلاماً كأنه جمل أورق{[8609]} ثم كان بعد ذلك الغلام أميراً بمصر وهو لا يعرف لنفسه أباً . ثم جاءه أيضاً عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن{[8610]} . والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية ، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي{[8611]} ، و «الأزواج » في هذا الحكم يعم المسلمات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل ، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسه{[8612]} ، وقرأ الجمهور «أربعَ شهادات » بالنصب وهو كانتصاب المصدر والعامل في ذلك قوله { فشهادة } ورفع «الشهادة » على خبر ابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب ، أو على الابتداء بتقدير فعليهم أن يشهدوا وبتقدير حذف الخبر وتقديره في آخر الآية كافية أو واجبة ، وقوله { بالله } من صلة { شهادات } ، ويجوز أن يكون من صلة { فشهادة } ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «أربعُ » بالرفع وذلك على خبر قوله { فشهادة } قال أبو حاتم لا وجه للرفع لأن الشهادة ليست ب { أربع شهادات } و { بالله } على هذه القراءة من صلة { شهادات } ، ولا يجوز أن يكون من صلة «شهادة » لأنك كنت تفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو { أربع شهادات } ، وقوله : { إنه لمن الكاذبين } في قول من نصب «أربعَ شهادات » يجوز أن تكون من صلة «شهادة » وهي جملة في موضع نصب ، لأن الشهادة أوقعتها موقع المفعول به ، ومن رفع «أربعُ شهادات » فقوله { إنه لمن الكاذبين } من صلة { شهادات } لعلة الفصل المتقدمة في قوله { بالله } ، وقرأ حفص عن عاصم «والخامسةَ » بالنصب في الثانية ، وقرأها بالنصب فيهما طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن والحسن والأعمش ، وقرأ الجمهور فيهما «والخامسةُ » بالرفع ، فأما من نصب فإن كان من قراءته نصب قوله «أربعَ شهدات » فإنه عطف الخامسة على ذلك لأنها من الشهادات ، وأن كان يقرأ «أربعُ » بالرفع ، فإنه جعل نصب قوله ، والخامسة على فعل يدل عليه متقدم الكلام تقديره وتشهد الخامسة ، وأما من رفع قوله «والخامسةُ » فإن كان يقرأ «أربعُ » بالرفع فقوله «والخامسةُ » عطف على ذلك ، وإن كان يقرأ «أربعَ » بالنصب فإنه حمل قوله «والخامسةُ » على المعنى لأن معنى قوله شهادة أحدهم عليهم أربع شهادات والخامسة واستشهد أبو علي لهذا بحمل الشاعر : [ الكامل ]

ومشجج أما سواد قذاله . . . البيت على قوله : «إلا رواكد جمرهن هباء »{[8613]} لأن المعنى ثم رواكد ولا خلاف في السبع في رفع قوله «والخامسةُ » في الأولى ، وإنما خلاف السبع في الثانية فقط فنصبه حمل على قوله { أن تشهد أربع }

{ والخامسة } على القطع والحمل على المعنى{[8608]} ، وقرأ نافع وحده «أن لعنة »{[8609]} و «أنَّ غضب »{[8610]} ، وقرأ الأعرج والحسن وقتادة وأبو رجاء وعيسى «أَن لعنة »{[8611]} و «أن غضب الله »{[8612]} وهذا على إضمار الأمر وهي المخففة كما هي في قول الشاعر : «في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى ينتعل{[8613]} ، البيت » وقرأ باقي السبعة «أنّ لعنة الله » «وأنّ غضب الله » بتشديد النون فيهما ونصب «اللعنة والغضب » ورجح الأخفش القراءة بتثقيل النون لأن الخفيفة إنما يراد بها التثقيل ويضمر معها الأمر والشأن وما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى .

قال الفقيه الإمام القاضي : لا سيما وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله «أن غضب » قد وليها الفعل ، قال أبو علي وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله تعالى { علم أن سيكون }{[7]} [ المزمل : 20 ] وقوله : { أَفلا يرون ألا يرجع }{[8]} [ طه : 89 ] وأما قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[9]} [ النجم : 39 ] فذلك لقلة تمكن ليس في الأفعال وأما قوله : { أن بورك من في النار }{[10]} [ النمل : 8 ] ف { بورك } على معنى الدعاء فلم يجز دخول الفاصل لئلا يفسد المعنى{[11]} ، و «العذاب الُمْدَرُأ » في قول جمهور العلماء الحد وحكى الطبري عن آخرين أنه الحبس وهو قول أصحاب الرأي وأَنه لا حد عليها إن لم تلاعن وليس يوجبه عليها قول الزوج .

قال الفقيه الإمام القاضي : وظاهر حديث الوقفة في الخامسة حين تلكأت ثم مرت في لعانها أَنها كانت تحِّد لقول النبي عليه السلام لها فعذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة{[12]} وجعلت «اللعنة » للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة وجعل «الغضب » الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول فهذا معنى هذه الألفاظ والله أَعلم .

قال الفقيه الإمام القاضي : ولا بد أَن نذكر في تفسير هذه الآية ما يتعلق بها من مسائل اللعان إذ لا يستغنى عنها في معرفة حكمه وحيث يجب ، أجمع مالك وأَصحابه على وجوب اللعان بادعاء رؤية زنى لا وطء من الزوج بعده{[13]} ، وكذلك مشهور المذهب ، وقول مالك إن اللعان يحب بنفي حمل يدعى قبله استبراء ، وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة : لا ينفى الولد بالاستبراء لأَن الحيض يأتي على الحمل ، وقاله أشهب في كتاب ابن المواز ، وقاله المغيرة ، وقال لا ينفى الولد إلا بخمس سنين{[14]} ، واختلف المذهب في أن يقذف الرجل أو ينفي حملاً ولا يعلل ذلك لا برؤية ولا باستبراء ، فجل رواة مالك لا يوجب لعاناً بل يحد الزوج ، وقاله ابن القاسم وروي عنه أيضاً أنه قال يلاعن ولا يسأل عن شيء{[15]} ، واختلف بعد القول بالاسبتراء في قدر الاستبراء ، فقال مالك والمغيرة في أحد قوليه يجزىء في ذلك حيضة . وقال أيضاً مالك لا ينفعه إلا ثلاث حيض{[16]} ، وأما موضع اللعان ففي المسجد وعند الحاكم والمستحب أن يكون في المسجد بحضرة الحاكم ، وكذلك يستحب [ أن يكون ]{[17]} بعد العصر تغليظاً بالوقت وكل وقت مجز ، ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا هو لدفع الحد وهي لدرء العذاب ، وأن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأَنها لو أقرت لم يلزمها شيء{[18]} ، وقال ابن الماجشون لا حد على قاذف من لم يبلغ ، قال اللخمي فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل ، والمستحب من ألفاظ اللعان أَن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه فيقول الزوج أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني{[19]} وإني في ذلك لمن الصادقين ، ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي أن كنت من الكاذبين ، وقال أصبغ لا بد أَن يقول كالمرود في المكحلة ، وقيل لا يلزمه ذلك وكذلك يقول أشهب لا بد أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو ، وأَما في لعان نفي الحمل فقيل يقول الرجل ما هذا الولد مني ولزنت ، وقال ابن القاسم في الموازنة ، لا يقول وزنت من حيث يمكن أَن تغضب ، وتقول المرأة أشهد بالله ما زنيت وأنه في ذلك لمن الكاذبين ، ثم تقول غضب الله علي إن كان من الصادقين فإِن منع جهلهما من ترتيب هذه الأَلفاظ وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك ، وحكى اللخمي عن محمد بن أَبي صفرة أَنه قال اللعان لا يرفع العصمة لقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها قال : فأحدث طلاقاً ، ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة لا يحتاج معها إلى تفريق حاكم وابن أَبي صفرة هذا ليس بعيد{[20]} يزاحم به الجمهور .

ومذهب الشافعي أن الفرقة حاصلة إثر لعان الزوج وحده ، وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تفريق إلا بحكم السلطان بعد لعانهما ، فإن مات أحدهما بعد تمام لعانهما وقبل حكم القاضي ورثه الآخر ، ومذهب المدونة أن اللعان حكم تفريقه حكم الطلاق ويعطى لغير المدخول بها نفس الصداق ، وفي مختصر ابن الجلاب لا شيء لها وهذا على أن تفريق اللعان فسخ ، وقال ابن القصار تفريق اللعان عندنا فسخ وتحريم اللعان أبدي بإجماع فيما أحفظ من مذهب مالك رحمه الله ، ومن فقهاء الكوفة وغيرهم من لا يراه متأبداً ، وإن أكذب نفسه بعد اللعان لم ينتفع بذلك ، وروي عن عبد العزيز بن أَبي سلمة أنه إن أكذب نفسه بعد اللعان كان خاطباً من الخطاب ، وإن تقدمت المرأة في اللعان فقال ابن القاسم لا تعيد ، وقال أشهب تعيد{[21]} .


[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
[11]:- في بعض النسخ (رفْع) بالراء.
[12]:- رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.
[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
[19]:- بعده: و كنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة فلست على خير أتاك بحاسد امتن عليه بمدحه، وجعله خيرا سيق إليه لا يحسده عليه، وهذا مما أخذ عليه والخَبَبُ ضرب من السير.
[20]:- هو الفرزدق – من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وهو في البيت يذم قوما، ويشبههم ببدوية حمقاء، وضعت سمنها في زق غير صالح ففسد. وسلأت: معناها طبخت، يقال: سلأت السمن واستلأته، وذلك إذا طبخ وعولج. وحقنت معناه: صبت: من حقن اللبن في السقاء يحقنه حقنا: صبه فيه ليخرج زبده "والسلاء بالكسر ممدود": هو السمن.
[21]:- لما بلغ خبر هزيمة حنين إلى مكة سر بذلك قوم، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها. وقال آخر وهو أخ صفوان لأمه: «ألا قد بطل السحر اليوم»، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: «اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان». انظر السيرة الحلبية.
[8608]:أخرجه أحمد، وعبد الرازق، والطيالسي، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي بعض الروايات ـ على ما ذكره السيوطي في الدر المنثور ـ أن الآية لما نزلت قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله، ولكني تعجبت، إني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهجيه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. ثم حدثت قصة هلال بن أمية، وقال الأنصار: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن. وقد ذكرنا الخبر كاملا في الهامش (1) من صفحة (420) من هذا الجزء.
[8609]:الأورق من كل شيء: ما كان لونه الرماد، ومن الناس: الأسمر، ومن الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد.
[8610]:أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، عن سهل بن سعد، وفي الخبر ـ كما ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور ـ أن عويمر جاء إلى عاصم بن عدي فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فلقيه عويمر فقال: ما صنعت؟ فقال: إنك لم تأتني بخير، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل، فقال: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأسألنه، فأتاه فوجده قد أنزل عليه، فدعا بهما فلاعن بينهما.
[8611]:نقل القرطبي عن أبي عبد الله بن أبي صفرة، قال: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ، ثم نقل عن الطبري أنه استنكر أن يكون و هلال بن أمية، وأنه قال: "وإنما القاذف ويمر ن زيد ن الجد بن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني، كذلك كان يقول أهل الأخبار" راجع القرطبي (12 ـ 184).
[8612]:يعني أنه يلاعنها لرفع حد القذف عن نفسه.
[8613]:هذه أجزاء من بيتين استشهد بهما ابن عطية، وعلى عادته اكتفى بموضع الشاهد فقط من كل بيت، والبيتان في كتاب سيبويه، وهما بتمامهما: بادت وغير آيهن مع البلى إلا رواكد مرهن هباء ومشجج أما سواء قذاله فبدا وغير ساره المعزاء وسيبويه يستشهد بهما في مجال العطف على المجرور، فأنت تقول: "هذا ضارب زيد وعمرو" إذا أشركت بين الآخر والأول في الجار لأنه لا مانع من ذلك، وإن شئت نصبت على المعنى وتضمر له ناصبا، تقول: "هذا ضارب زيد وعمرا" كأنه قال: ويضرب عمرا أو ضارب عمرا، وإنما جاز هذا الإضمار عنده لأن معنى الكلام في قولك: "هذا ضارب زيد": هذا ضرب زيدا، فيجوز لك أن تقول: وضرب عمرا، وهذا حمل على المعنى، وقد قال الله تعالى: {ولحم طير مما يشتهون وحور عين}، فالمعنى في الآية: لهم فيها لحم طير، ولهذا رفع [حور] حملا على المعنى، ثم استشهد بالبيتين، وفيهما رفع الشاعر قوله: "ومشجج" مع أنه في أصل الكلام معطوف على "رواكد" في البيت السابق، وحقه النصب، لكنه رفعه حملا على المعنى، كأنه قال: رواكد ومشجج. ومعنى بادت: بليت وذهبت، والآي: جمع آية وهي آثار الديار وعلاماتها، والبلى: تقادم العهد، والرواكد: يريد بها الأثافي وهي الأحجار التي توضع عليها القدر عند طهي الطعام، سميت بذلك لثبوتها وبقائها في مكانها، والراكد هو الثابت الساكن في موقعه، والهباء: الغبار، جعل الجمر كالهباء لقدمه وانسحاقه، والمشجج: الوتد من أوتاد الخباء، وشجه أو تشجيجه هو شقه بالضرب على رأسه لتثبيته، والقذال: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس، والمراد به هنا أعلى الوتد، وسواؤه: وسطه، وساره: ساره وجميعه، هي لغة في سائره، قال في اللسان: "وساره: جميعه، يجوز أن يكون من الباب لسعة الباب (س ي ر)، وأن يكون من الواو لأنها عين، وكلاهما قد قيل"، وقال الشنتمري: "حذف عين الفعل لاعتلاله، ونظيره هار بمعنى هائر، وشاك بمعنى شائك". والمعزاء: الأرض الحزنة الغليظة ذات الحجارة، وجمعها الأماعز، وكانوا يتحرون أن ينزلوا في الأراضي الصلبة ليكونوا بمعزل عن السبيل، والمعزاء بفتح الميم، وقد ضبطا بعضهم بالكسر وهو خطأ. هذا والبيت الثاني في اللسان والتاج وأساس البلاغة، وقد ضبطه محقق اللسان "ومشجج" بالكسر، والأحسن ما ذكرناه ها هنا وهو الموافق لرأي سيبويه.

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

أما قوله : { والخامسة } أي فالشهادة الخامسة ، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها . وأنث اسم العدد لأنه صفة لمحذوف دل عليه قوله { فشهادة أحدهم } والتقدير : والشهادة الخامسة . وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى . فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه إن كانت غموساً من الحرمان من رحمة الله تعالى .

وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها . وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلاً عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها .

وقرأ الجمهور : { والخامسةُ أن غضب الله عليها } بالرفع كقوله : { والخامسة أن لعنت الله عليه } وهو من عطف الجمل . وقرأه حفص عن عاصم بالنصب عطفاً على { أربع شهادات } الثاني وهو من عطف المفردات .

وقرأ الجمهور : { أنّ لعنة الله عليه } و { أنّ غضب الله عليها } بتشديد نون ( أنّ ) وبلفظ المصدر في { أنّ غضب الله } وجر اسم الجلالة بإضافة ( غضب ) إليه . ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على { أن } في الموضعين متعلقة ب { الخامسة } لأنها صفة لموصوف تقديره : والشهادة الخامسة ، ليتجه فتح همزة ( أنّ ) فيهما . والمعنى : أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بأن لعنة الله أو بأن غضب الله ، أي بما يطابق هذه الجملة .

وقرأ نافع بتخفيف نون ( أنْ ) في الموضعين و { غضِب الله } بصيغة فعل المضي ، ورفْع اسم الجلالة الذي بعد { غضِب } . وخرجت قراءته على جعل ( أن ) مخففة من الثقيلة مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلاً لشأن الشهادة الخامسة . ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر ( أن ) المخففة من أحد أربعة أشياء : قد ، وحرف النفي ، وحرف التنفيس ، ولولا . والذي أرى أن تجعل ( أن ) على قراءة نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير .

وقرأ يعقوب { أنْ لعنة الله } بتخفيف ( أن ) ورفع { لعنةُ } وجر اسم الجلالة مثل قراءة نافع . وقرأ وحده { أن غضبُ الله عليها } بتخفيف ( أن ) وفتح ضاد { غضب } ورفع الباء على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة .

وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ ( أن ) فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة .

والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع . وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذباً فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة .

واللعنة واللعن : الإبعاد بتحقير . وقد تقدم في قوله : { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } في سورة الحجر ( 35 ) .

واعلم أن الزوج إن سمى رجلاً معيناً زنى بامرأته صار قاذفاً له زيادة على قذفه المرأة ، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى . وقد اختلف الأيمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي : يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حداً واحداً ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال بن أمية بعد اللعان .

وقال مالك وأبو حنيفة : يُسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه ، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف .

ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضياً أن يقام عليها حد الزنى ، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حالفها كاذباً فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى : { ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } الآية . وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيْمان الرجل ، وكانت أيمان الرجل بدلاً من الشهادة وسميت شهادة ، كانت أيْمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة ؛ ولأنها كالشهادة المعارضة ، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيْمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها .

القول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزوج سواء . وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها .

وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (9)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 8]

{ويدرؤا عنها العذاب} يقول: يدفع عنها الحد لشهادتها بعد {أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان} زوجها {من الصادقين}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"والخامِسَةُ أنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها..." يقول: والشهادة الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وجعلت «اللعنة» للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة. وجعل «الغضب» الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول، فهذا معنى هذه الألفاظ والله أَعلم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخيلائها وإطماعها ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد.

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 8]

ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحد عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{والخامسة} من الشهادات {أن غضب الله} الذي له الأمر كله فلا كفوء له {عليها} وهو أبلغ من اللعن الذي هو الطرد، لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق... {إن كان} أي كوناً راسخاً {من الصادقين} أي فيما رماها به..

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وتزيد في الخامسة، مؤكدة لذلك، أن تدعو على نفسها بالغضب، فإذا تم اللعان بينهما، فرق بينهما إلى الأبد، وانتفى الولد الملاعن عليه، وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان، منه ومنها، واشتراط الترتيب فيها، وأن لا ينقص منها شيء، ولا يبدل شيء بشيء، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به، كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إنه عبر عن اللعنة في جانب الرجال، لأنه أقوى جلدا وإدراكا لمعنى الطرد، ولا يؤثر فيهم الغضب بمقدار ما يؤثر الطرد الحسي، لا مجرد الغضب النفسي، وفي جانب النساء عبر بالغضب، لأنه يؤثر في نفوسهن، ومجرد الإعراض يؤثر في نفوسهن.