وأيضاً قوله : { وَيَدْرَأ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ }{[33927]} والألف واللام في «العَذَاب » للمعهود السابق وهو الحدّ ، وليس للعموم ، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب . ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقاً فحدُّوني ، وإن كان كاذباً فخلوني . وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس . واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك{[33928]} ليس بينة على الزنا ولا إقراراً منها به ، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه السلام{[33929]} : «لا يَحلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ »{[33930]} الحديث . وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن ، لأن لا قائل بالفرق . وأيضاً فالنكول بصريح الإقرار ، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره{[33931]} .
من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين ، وكذا إذا كان أحدهما رقيقاً ، أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية {[33932]} .
فإن قيل : اللعان شهادة ، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة . وإنما قلنا : اللعان شهادة ، لقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } فسمى{[33933]} اللعان شهادة كقوله : «واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ »{[33934]} ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على{[33935]} لفظ اليمين ، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً }{[33936]} [ النور : 4 ] ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر ، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة ، أو لأنه لا قائل بالفرق .
فالجواب : أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة ، بل هو يمين مخصوصة ، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت{[33937]} المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل : الفاسق والفاسقة قد يتوبان . قلنا : وكذلك{[33938]} العبد قد يعتق فتجوز شهادته {[33939]} .
قال عثمان البتي{[33940]} : إذا تَلاَعَنَ الزوجان لم تقع الفرقة ، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قوله ، وهذا لا يوجب تحريماً ، ( ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريماً ) {[33941]} ، فإذا كان كاذباً والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريماً . وأيضاً لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة ، فكذا عند الحاكم . وأيضاً فاللعان قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات ، فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا إسقاط الحد ( فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد ) {[33942]} .
وأيضاً فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حُدَّ لم يوجب ذلك الفرقة ، فكذا إذا لاَعَن ، لأن اللعان قائم مقام درء الحد .
وأما تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة العجلاني{[33943]} ، وكان قد طلقها ثلاثاً بعد اللعان فلذلك فرق بينهما {[33944]} .
وقال أصحاب الرأي : لا تقع الفرقة بفراغهما{[33945]} من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، لما روى سهل بن سعد{[33946]} في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال : كذبتُ عليْهَا يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثاً ، ( فطلقها ثلاثاً ) {[33947]} قبل أن يأمرهما ، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : كذبت عليها إن أمسكتُها ، لأن إمساكها غير ممكن ، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم ، فوجب{[33948]} ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم ، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث{[33949]} وزفر{[33950]} : ( إذا فرغا ){[33951]} من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما ، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا ، بل فرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة .
وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ، ولا يحل له أبداً لقوله تعالى : { وَيَدْرَؤُا عَنْهَا العذاب{[33952]} . . . الآية } ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج ، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد ، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها{[33953]} .
وهو مذكور في الآية صريحاً . قال العلماء : يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء{[33954]} إلى اللعنة والغضب ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقاً . ويكون اللعان عند الحاكم ، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن ، وإن كان بالمدينة عند المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، وفي المواضع المعظمة . ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ، ولا بد من حضور جماعة ، وأقلهم أربعة{[33955]} . وهذا التغليظ{[33956]} قيل : واجب . وقيل : مستحب .
معنى الآية : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أي : يقذفون نساءهم { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ } يشهدون على صحة ما قالوا «إلاَّ أَنْفُسُهُمْ » أي : غير أنفسهم { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين }{[33957]} .
قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } . في رفع «أنفسهم » وجهان :
أحدهما : أنه بدل من «شُهَدَاءُ » ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه ( غيره ){[33958]} {[33959]} .
والثاني : أنه نعت له على أن «إلا » بمعنى : غير .
قال أبو البقاء : ولو قرئ بالنصب لجاز على أن يكون خبر «كانَ » ، أو منصوباً على الاستثناء ، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن «إلا » هنا صفة للنكرة{[33960]} كما ذكرنا في سورة الأنبياء{[33961]} .
قال شهاب الدين : وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون «كان » ناقصة ، وخبرها الجار ، وأن تكون تامة ، أي : ولم يوجد لهم شهداء {[33962]} .
وقرأ العامة «يَكُنْ » بالياء من تحت ، وهو الفصيح ، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد «إلا »{[33963]} على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل{[33964]} نحو «ما قام إلا هند » ولا يجوز «ما{[33965]} قامت » إلا في ضرورة كقوله :
وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ{[33966]} *** . . .
أو في شذوذ ، كقراءة الحسن : { لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ }{[33967]} .
وقرئ{[33968]} : «وَلَمْ تَكُنْ » بالتاء من فوق{[33969]} ، وقد عرف ما فيه .
قوله : «فَشَهَادةُ أَحَدِهِمْ » في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره مقدر{[33970]} التقديم ، أي : فعليهم شَهَادة ، أو{[33971]} مؤخر أي : فشهادة أحدهم كافية أو واجبة{[33972]} .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب شهادة أحدهم {[33973]} .
الثالث : أن يكون فاعلاً بفعل مقدر ، أي : فيكفي{[33974]} ، والمصدر هنا مضاف للفاعل{[33975]} .
وقرأ العامة{[33976]} : «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » بالنصب على المصدر ، والعامل فيه «شَهَادة »{[33977]} . فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً }{[33978]} [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخوان وحفص برفع «أَرْبَعُ »{[33979]} على أنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : «فَشَهادةُ » . ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله : «بِاللَّهِ » .
فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب «شَهَادَاتٍ » لأنه أقرب إليه .
والثاني : أنه متعلق بقوله : «فَشَهَادَةُ » أي : فشهادة أحدهم بالله ، ولا يضر الفصل ب «أَرْبَعُ » لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية {[33980]} .
الثالث : أن المسألة من باب التنازع ، فإن كلاًّ من «شَهَادَةُ » أو «شَهَادَاتٍ » يطلبه من حيث المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهو مختار البصريين{[33981]} وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب «شَهَادَاتٍ » إذ لو علقت ب «شَهَادةُ » لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، ولا يجوز أنه أجنبي{[33982]} .
ولم يختلف في «أَرْبَعَ » الثانية ، وهي قوله : { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ }{[33983]} أنها منصوبة ، للتصريح بالعامل{[33984]} فيها وهو الفعل .
قوله : «والخَامِسَةُ » اتفق السبعة على رفع «الخَامِسَةُ » الأولى{[33985]} ، واختلفوا في الثانية{[33986]} : فنصبها حفص{[33987]} . ونصبهما معاً الحسن والسلمي وطلحة والأعمش{[33988]} .
فالرفع على الابتداء ، وما بعده من «أَنَّ » وما في حيزها الخبر{[33989]} .
وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها{[33990]} . وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر ، أي : وتشهد الخامسة{[33991]} .
وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره ، ولذلك لم يختلف فيه .
وأما «أَنَّ » وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم ، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب ل «الخامسة » أي : ويشهد الخامسة بأنَّ لعنة الله ، وبأن غضب الله{[33992]} وجوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «الخَامِسَة »{[33993]} .
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } .
قرأ العامة بتشديد «أنَّ » في الموضعين .
وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين ، إلا أنه يقرأ «غَضِبَ اللَّهُ » يجعل «غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعله{[33994]} ، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضاً{[33995]} ، ولم ينقله غيره{[33996]} . فعلى قراءته يكون اسم «أَن » ضمير الشأن في الموضعين ، و «لَعنةُ اللَّهِ » مبتدأ و «عَلَيْهِ » خبرها ، والجملة خبر «أَنْ » ، وفي الثانية يكون «غَضِبَ اللَّهُ » جملة فعلية في محل خبر «أَنْ » أيضاً . ولكنه يقال : يلزمكم أحد أمرين : وهو إمَّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبراً ، وإما وقوع الطلب خبراً في هذا الباب ، وهو ممتنع .
تقرير ذلك : أن خبر ( أنْ ) {[33997]} المخففة متى كان فِعْلاً متصرفاً غير مقرون ب «قَدْ » وجب الفصل بينهما{[33998]} بما تقدم في سورة المائدة .
فإن أجيب بأنه دعاء ، اعترض بأن الدعاء طلب ، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبراً ل «أَنَّ » ، حتى تأولوا قوله :
إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ{[33999]} *** . . .
إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ *** لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا{[34000]}
ومثله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار }{[34001]} [ النمل : 8 ] .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسُّلَمي وعيسى بتخفيف «أن » و «غَضَبُ الله » بالرفع{[34002]} على الابتداء ، والجار بعده خبره ، والجملة خبر «أَنْ » {[34003]} .
وقال ابن عطية : و ( أَنْ ) الخفيفة على قراءة ( نافع ) {[34004]} في قوله : ( أَنْ غَضِب ) قد وليها الفعل{[34005]} . قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يَلِيهَا الفعل ، إِلاَّ أن يُفْصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ }{[34006]} [ المزمل : 20 ] ، { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ }{[34007]} [ طه : 89 ] ، فأما قوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ }{[34008]} {[34009]} [ النجم : 39 ] فذلك لقلة تمكن ( ليس ) في الأفعال ، وأما قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار }{[34010]} [ النمل : 8 ] و ( بُورِكَ ) في معنى الدعاء ، فلم يجئ دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى{[34011]} ، فظاهر هذا أن ( غَضِب ) ليس دعاء ، بل هو خبر عن { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْها } . والظاهر أنه دعاء كما أن ( بُورِكَ ) كذلك ، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد{[34012]} ليس بمرضي {[34013]} .