قوله تعالى : { فاسجدوا لله واعبدوا } يعني : واعبدوه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : " أول سورة انزلت فيها سجدة : النجم ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، وهو أمية بن خلف " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا آدم بن أبي إياس ، أنبأنا ابن أبي ذئب ، أنبأنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها . فقلت : فهذا دليل على أن سجود التلاوة غير واجب . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . وهو قول الشافعي وأحمد . وذهب قوم إلى أن وجوب سجود التلاوة على القارئ والمستمع جميعاً ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } الأمر بالسجود لله خصوصا ، ليدل ذلك على فضله{[918]} وأنه سر العبادة ولبها ، فإن لبها الخشوع لله{[919]} والخضوع له ، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد{[920]} فإنه يخضع قلبه وبدنه ، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام . ثم أمر بالعبادة عموما ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة .
تم تفسير سورة النجم ، والحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده ، وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا .
وقوله - سبحانه - : { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم ، ونهى لهم عن الكفر والضلال .
فالفاء فى قوله - تعالى - : { فاسجدوا } لترتيب الأمر بالسجود ، على الإنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا فى كفرهم ولهوهم .
والمراد بالسجود : الخضوع لله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، ويندرج فيه سجود الصلاة ، وسجود التلاوة .
أى : اتركوا ما أنتم عليه من فر وضلال . وخصوا الله - تعالى - بالخضوع الكامل ، وبالعبادة التامة ، التى لا شرك فيها لأحد معه - سبحانه - .
قال الآلوسى : وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - عندها .
أخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائى عن ابن مسعود قال : " أول سورة أنزلت فيها سجدة : سورة " النجم " فسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا " .
هذا ، وقد ذكر بعض الفسرين قصة الغرانيق . وملخصها أن الرصول - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم ، فلما بلغ قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى .
وقد قال الإمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة : إنها من روايات وطرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل .
وهنا يرسلها صيحة مدوية ، ويصرخ في آذانهم وقلوبهم ، ويهتف بهم إلى ما ينبغي أن يتداركوا به أنفسهم ، وهم على حافة الهاوية :
وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق ، وفي هذه الظلال ، وبعد هذا التمهيد الطويل ، الذي ترتعش له القلوب :
ومن ثم سجدوا . سجدوا وهم مشركون . وهم يمارون في الوحي والقرآن . وهم يجادلون في الله والرسول !
سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يتلو هذه السورة عليهم . وفيهم المسلمون والمشركون . ويسجد فيسجد الجميع . مسلمين ومشركين . لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن ؛ ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان . . ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون !
بهذا تواترت الروايات . ثم افترقت في تعليل هذا الحادث الغريب . وما هو في الحقيقة بالغريب . فهو تأثير القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب !
هذا الحادث الذي تواترت به الروايات . حادث سجود المشركين مع المسلمين . كان يحتاج عندي إلى تعليل . قبل أن تقع لي تجربة شعورية خاصة عللته في نفسي ، وأوضحت لي سببه الأصيل .
وكنت قد قرأت تلك الروايات المفتراة عما سمي بحديث الغرانيق ، الذي أورده ابن سعد في طبقاته ، وابن جرير الطبري في تاريخه . وبعض المفسرين عند تفسيرهم لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ، ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) . . . الخ . . وهي الروايات التي قال فيها ابن كثير - جزاه الله خيرا - [ ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح ] .
وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رواية ابن أبي حاتم . قال : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي ، حدثنا محمد ابن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب . قال : أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ؛ ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ؛ فكان يتمنى هداهم . فلما أنزل الله سورة النجم قال : ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ? )ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى . . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته . . فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة . وزلت بها ألسنتهم . وتباشروا بها . وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه . . فلما بلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] آخر النجم سجد ، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين . ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين . . فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون - لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحدثهم به الشيطان أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين : عثمان بن مظعون وأصحابه . وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه من الفرية . وقال : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي . . . الخ . . فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين ، واشتدوا عليهم " . . انتهى .
وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء تنسب قولة الغرانيق . . تلك . . إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتعلل هذا برغبته - حاشاه [ صلى الله عليه وسلم ] في مرضاة قريش ومهادنتها ! ! !
وقد رفضت منذ الوهلة الأولى تلك الروايات جميعا . . فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف ، فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا . إذ أنه يتصدى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها . فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال . حتى على قول من قال : إن الشيطان ألقى بهما في أسماع المشركين دون المسلمين . فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوقون لغتهم . وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما : ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى . إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بها من سلطان . . الخ . ويسمعون بعد ذلك : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم . إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . . ويسمعون قبله : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) . . حين يسمعون هذا السياق كله فإنهم لا يسجدون مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لأن الكلام لا يستقيم . والثناء على آلهتهم وتقرير أن لها شفاعة ترتجى لا يستقيم . وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات ، التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين !
لغير هذا السبب إذن سجد المشركون . ولغير هذا السبب عاد المهاجرون من الحبشة ثم عادوا إليها بعد حين مع آخرين .
وليس هنا مجال تحقيق سبب عودة المهاجرين ، ثم عودتهم إلى الحبشة مع آخرين . .
فأما أمر السجود فهو الذي نتصدى له في هذه المناسبة . .
لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود . ويخطر لي احتمال أنه لم يقع ؛ وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة . وهو أمر يحتاج إلى التعليل .
وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل . .
كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب ، يتلو سورة النجم . فانقطع بيننا الحديث ، لنستمع وننصت للقرآن الكريم . وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا .
وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه . عشت مع قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في رحلته إلى الملأ الأعلى . عشت معه وهو يشهد جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها . ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله ! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة . عند سدرة المنتهى . وجنة المأوى . عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي ، وتحلق بي رؤاي ، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي . .
وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها . . إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة ، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى .
ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض ، وأمام الأجنة في بطون الأمهات . وعلم الله يتابعها ويحيط بها .
وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة . . الغيب المحجوب لا يراه إلا الله . والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء . والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد . والحشود الضاحكة والحشود الباكية . وحشود الموتى . وحشود الأحياء . والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها ، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى . والنشأة الأخرى . ومصارع الغابرين . والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !
واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة : ( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة ) . .
ثم جاءت الصيحة الأخيرة . واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب : ( أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون ? ) .
فلما سمعت : ( فاسجدوا لله واعبدوا ) . . كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي . واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي ، لم أملك مقاومته . فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ولا أن أكفكف دموعا هاتنة ، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة !
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح ، وأن تعليله قريب . إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة . ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها . ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة . . وذلك سر القرآن . . فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ؛ وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير . فيكون منها ما يكون !
لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] يقرأ هذه السورة يقرؤها بكيانه كله . ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه . وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في أعصاب السامعين . فيرتجفون ويسمعون : ( فاسجدوا لله واعبدوا )ويسجد محمد والمسلمون . . فيسجدون . .
ولقد يقال : إنك تقيس على لحظة مرت بك ، وتجربة عانيتها أنت . وأنت مسلم . تعتقد بهذا القرآن ، وله في نفسك تأثير خاص . . وأولئك كانوا مشركين يرفضون الإيمان ويرفضون القرآن !
ولكن هنالك اعتبارين لهما وزنهما في مواجهة هذا الذي يقال :
الاعتبار الأول : أن الذي كان يقرأ السورة كان هو محمد [ صلى الله عليه وسلم ] النبي . الذي تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره . وعاشه وعاش به . وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع من يرتله داخل داره ، ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهي ! وفي هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها في الملأ الأعلى . وعاشها مع الروح الأمين وهو يراه على صورته الأولى . . فأما أنا فقد كنت أسمع السورة من قارئ . والفارق ولا شك هائل !
والاعتبار الثاني : أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة ، وهم يستمعون إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان . . والحادثان التاليان شاهد على ما كان يخالج قلوبهم من الارتعاش .
روى ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب ، من طريق محمد بن اسحاق ، عن عثمان بن عروة ، ابن الزبير ، عن أبيه ، عن هناد بن الأسود ، قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ، ولأوذينه في ربه " سبحانه وتعالى " . فانطلق حتى أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا محمد . هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " . . ثم انصرف عنه ، فرجع إلى أبيه ، فقال : يا بني ، ما قلت له ? فذكر له ما قاله . فقال : فما قال لك ? قال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك . قال : يا بني والله ما آمن عليك دعاءه ! فسرنا حتى نزلنا أبراه - وهي في سدة - ونزلنا إلى صومعة راهب . فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد ? فإنها يسرح فيها الأسد كما تسرح الغنم ! فقال أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ؛ وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها . ففعلنا . فجاء الأسد فشم وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فوق المتاع ، فشم وجهه ، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه . فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد !
هذا هو الحادث الأول صاحبه أبو لهب . أشد المخاصمين لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] المناوئين له ، المؤلبين عليه هو وبيته . المدعو عليه في القرآن هو وبيته : ( تبت يدا أبي لهب وتب . ما أغنى عنه ماله وما كسب . سيصلى نارا ذات لهب . وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد ) . . وذلك شعوره الحقيقي تجاه محمد وقول محمد . وتلك ارتجافة قلبه ومفاصله أمام دعوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] على ابنه .
والحادث الثاني : صاحبه عتبة بن أبي ربيعة . وقد أرسلته قريش إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشا وعاب آلهتهم ، على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج . فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أفرغت يا أبا الوليد ? " قال : نعم . قال : " فاستمع مني " . قال : أفعل . قال : بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . ثم مضى حتى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) . . عندئذ هب عتبة يمسك بفم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في ذعر وهو يقول : ناشدتك الرحم أن تكف . . وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر . ويعقب عليه يقول : وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .
فهذا شعور رجل لم يكن قد أسلم . والارتجاف فيه ظاهر . والتأثر المكبوت أمام العناد والمكابرة ظاهر .
ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها . وأن يؤخذوا بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين . . بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين !
ثم قال آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } {[27723]} أي : فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا .
قال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس . انفرد به دون مسلم{[27724]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا رباح ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة ، عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم ، فسجد وسَجَد من عنده ، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب ، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها {[27725]} إلا سجد معه .
وقد رواه النسائي في الصلاة ، عن عبد الملك بن عبد الحميد ، عن أحمد بن حنبل ، به{[27726]} .
ذكر حديث له مناسبة بما تقدم من قوله تعالى : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى . أَزِفَتِ الآزِفَة } ، فإن النذير هو : الحذر لما يعاين من الشر ، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد } [ سبأ : 46 ] . وفي الحديث : " أنا النذير العُريان " أي : الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئًا ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك ، فجاءهم عُريانا مسرعا مناسب لقوله : { أَزِفَتِ الآزِفَة } أي : اقتربت القريبة ، يعني : يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [ القمر : 1 ] ، قال الإمام أحمد :
حدثنا أنس بن عياض ، حدثني أبو حازم - لا أعلم إلا عن سهل بن سعد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خُبْزَتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه " . وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو ضَمْرَة : لا أعلم إلا عن سهل بن سعد - قال : " مثلي مثل الساعة كهاتين " وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ، ثم قال : " مثلي ومثل الساعة كمثل فَرسَي رِهَان " ، ثم قال : " مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة ، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه : أتيتم أتيتم " . ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا ذلك " {[27727]} . وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحِسان . ولله الحمد والمنة ، وبه الثقة والعصمة .
آخر [ تفسير ] {[27728]} سورة النجم ولله الحمد والمنة
ثم أمر تعالى بالسجود وعبادة الله تحذيراً وتخويفاً ، وهاهنا سجدة في قول كثير من أهل العلم ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت بها أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك رحمه الله تعالى{[10748]} ، وقال زيد بن وثاب إنه قرأ بها عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد .
تفريع على الإِنكار والتوبيخ المفرعين على الإِنذار بالوعيد ، فرع عليه أمرهم بالسجود لله لأن ذلك التوبيخ من شأنه أن يعمق في قلوبهم فيكفّهم عما هم فيه من البطر والاستخفاف بالداعي إلى الله . ومقتضى تناسق الضمائر أن الخطاب في قوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } موجه إلى المشركين .
والسجود يجوز أن يراد به الخشية كقوله تعالى : { والنجم والشجر يسجدان } والمعنى : أمرهم بالخضوع إلى الله والكف عن تكذيب رسوله وعن إعراضهم عن القرآن لأن ذلك كله استخفاف بحق الله وكان عليهم لما دُعوا إلى الله أن يتدبروا وينظروا في دلائل صدق الرسول والقرآن .
ويجوز أن يكون المراد سجود الصلاة والأمر به كناية عن الأمر بأن يُسلموا فإن الصلاة شعار الإسلام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } [ المدثر : 42 ، 43 ] ، أي من الذين شأنهم الصلاة وقد جاء نظيره الأمر بالركوع في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } في سورة المرسلات ( 48 ) فيجوز فيه المحملان .
وعطف على ذلك أمرهم بعبادة الله لأنهم إذا خضعوا له حَقَّ الخضوع عبدوه وتركوا عبادة الأصنام وقد كان المشركون يعبدون الأصنام بالطواف حولها ومعرضين عن عبادة الله ، ألاَ ترى أنهم عمدوا إلى الكعبة فوضعوا فيها الأصنام ليكون طوافهم بالكعبة طوافاً بما فيها من الأصنام .
أو المراد : واعبدوه العبادة الكاملة وهي التي يُفرد بها لأن إشراك غيره في العبادة التي يستحقها إلا هو كعدم العبادة إذ الإِشراك إخلال كبير بعبادة الله قال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] .
وقد ثبت في الأخبار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها أي عند قوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } وسجد من كان معه من المسلمين والمشركين إلا شيخاً مشركاً { هو أمية بن خلف } أخذ كفًّا من تراب أو حصى فرفعه إلى جهته وقال : يكفيني هذا . وروي أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يسجدان عند هذه الآية في القراءة في الصلاة .
وفي « أحكام » ابن العربي أن ابن عمر سجد فيها ، وفي « الصحيحين » و « السنن » عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها . وفي « سنن ابن ماجه » عن أبي الدرداء « سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدَى عشرة سجدة ليس فيها من المفصّل شيء » . وعن أبي بن كعب : كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصّل . وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة ، وسورة النجم من المفصَّل .
واختلف العلماء في السجود عند هذه الآية فقال مالك : سجدة النجم ليست من عزائم القرآن أي ليست مما يسنّ السجود عندها .
هذا مراده بالعزائم وليس المراد أن من سجود القرآن عَزائمَ ومنه غيرُ عزائم ف { عزائم } وصف كاشف } ولم ير سجود القرآن في شيء من المفصل ، ووافقه أصحابه عدا ابن وهب قرآها من عزائم السجود ، هي وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق مثل قول أبي حنيفة . وفي « المنتقى » : أنه قول ابن وهب وابن نافع .
وقال أبو حنيفة : هي من عزائم السجود . ونسب ابن العربي في « أحكام القرآن » مثله إلى الشافعي ، وهو المعروف في كتب الشافعية والحنابلة .
وإنما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإن كان الأمر في قوله : { فاسجدوا } مفرعاً على خطاب المشركين بالتوبيخ ، لأن المسلمين أولى بالسجود لله وليعضد الأمر القولي بالفعل ليبادر به المشركون . وقد كان ذلك مذكراً للمشركين بالسجود لله فسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ السجود فيها بعد ذلك فلم يروَ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ، ولخبر زيد بن ثابت وأُبي بن كعب وعمل معظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة .