وهنا يقولون فى يأس وذلة : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وهو جواب يدل على استصغارهم للمدة التى لبثوها فى الدنيا . بجانب ما هم فيه من عذاب .
وقوله - تعالى - { فَسْئَلِ العآدين } يشعر بذهولهم عن التحقق من مقدار المدة التى لبثوها فى الدنيا .
أى : فاسأل المتمكنين من معرفة المدة التى مكثناها فى الدنيا .
يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون ، { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } أي : كم كانت إقامتكم في الدنيا ؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } أي : الحاسبين
{ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } أي : مدة يسيرة على كل تقدير { لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لما آثرتم الفاني على الباقي ، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة ، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته{[20698]} - كما فعل المؤمنون - لفزتم كما فازوا .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوَزير ، حدثنا الوليد ، حدثنا صفوان ، عن أيفع بن عبد الكَلاعي ؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قال : يا أهل الجنة ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم . قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ؟ ثم يقول : يا أهل النار ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يومًا أو بعض يوم . فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين " {[20699]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدّينَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، وفي قوله : لَبِثْنا يَوما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة على وجه الخبر : قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ، وكذلك قوله : قالَ إنْ لَبِثْتُمْ . ووجّه هؤلاء تأويل الكلام إلى أن الله قال لهؤلاء الأشقياء من أهل النار وهم في النار : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ وأنهم أجابوا الله فقالوا : لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، فنسي الأشقياء ، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب ، مدة مكثهم التي كانت في الدنيا ، وقَصُر عندهم أمد مكثهم الذي كان فيها ، لما حلّ بهم من نقمة الله ، حتى حسبوا أنهم لم يكونوا مكثوا فيها إلا يوما أو بعض يوم ، ولعلّ بعضهم كان قد مكث فيها الزمان الطويل والسنين الكثيرة .
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة على وجه الأمر لهم بالقول ، كأنه قال لهم قولوا كم لبثتم في الأرض ؟ وأخرج الكلام مُخْرج الأمر للواحد والمعنيّ به الجماعة ، إذ كان مفهوما معناه . وإنما اختار هذه القراءة من اختارها من أهل الكوفة لأن ذلك في مصاحفهم : «قُلْ » بغير ألف ، وفي غر مصاحفهم بالألف .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ذلك : قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ على وجه الخبر ، لأن وجه الكلام لو كان ذلك أمرا ، أن يكون «قُولوا » على وجه الخطاب للجمع لأن الخطاب فيما قبل ذلك وبعده جرى لجماعة أهل النار ، فالذي هو أولى أن يكون كذلك قوله : «قولوا » لو كان الكلام جاء على وجه الأمر ، وإن كان الاَخر جائزا ، أعني التوحيد ، لما بيّنت من العلة لقارىء ذلك كذلك ، وجاء الكلام بالتوحيد في قراءة جميع القرّاء ، كان معلوما أن قراءة ذلك على وجه الخبر عن الواحد أشبه ، إذْ كان ذلك هو الفصيح المعروف من كلام العرب . فإذا كان ذلك ذلك ، فتأويل الكلام : قال الله كم لبثتم في الدنيا من عدد سنين ؟ قالوا مجيبين له : لبثنا فيها يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين ، لأنا لا ندري ، قد نسينا ذلك .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالعادّين ، فقال بعضهم : هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُون عليهم ساعاتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فاسأَلِ العادّينَ قال : الملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل هم الحُسّاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فاسأَلِ العادّينَ قال : فاسأل الحُسّاب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : فاسأَلِ العادّينَ قال : فاسأل أهل الحساب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه : فاسأَلِ العادّينَ وهم الذين يَعُدّون عدد الشهور والسنين وغير ذلك . وجائز أن يكونوا الملائكة ، وجائز أن يكونوا بني آدم وغيرهم ، ولا حجة بأيّ ذلك من أيّ ثبتت صحتها فغير جائز توجيه معنى ذلك إلى بعض العادّين دون بعض .
{ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار ، أو لأنها كانت أيام سرورهم وأيام السرور قصار ، أو لأنها منقضية والمنقضي في حكم المعدوم . { فاسأل العادين } الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصانها ، أو الملائكة الذين يعدون أعمار الناس ويحصون أعمالهم . وقرئ { العادين } بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون ما تقول ، و{ العادين } أي القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون .
قرأه ابن كثير وحمزة و الكسائي { قل } بصيغة الأمر . والخطاب للملَك الموكل بإحياء الأموات .
وجملة : { فسئل العادين } تفريع على جملة : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض . وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسَأة ، قال الكناني :
ونحن الناسئون على معدّ *** شهور الحل نجعلها حراما
والمفسرون جعلوا المراد من العادّين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث . ولكن القرطبي قال : أي سلِ الحُسَّاب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه .