ويؤيد هذا القول قوله - تعالى - : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } أى : فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا .
قال بعض العلماء : " والذى يهمنا هنا ، أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار ، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد ، فليس في السائل مظنة أن يجهل ، ولا في المسئول مظنة أن ينكر ، وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم ، وشعور المرسلين بتبليغهم ، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها وأعرض عنها في الوقت الذي كان يجديه الإققال عليها والإيمان بها ، وهو نوع من زيادة الحسرة ، وقطع الآمال في النجاة بوضع يد المجرم على جسم جريمته ، وهو في الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن و الطمأنينة للرسل في القيام بدعوتهم وتبليغهم ما أمروا بتبليغه ، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله - تعالى - : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَنَقُصّنّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنّا غَآئِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فلنخبرنّ الرسل ومن أرسلتهم إليه بيقين علم بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به ، وما كنت نهيتهم عنه ، وما كنا غائبين عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها .
فإن قال قائل : وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم ، وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم ، وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر ، كما يقول الرجل للرجل : ألم أحسن إليك فأسأت ؟ وألم أصلك فقطعت ؟ فكذلك مسألة الله المرسل إليهم بأن يقول لهم : ألم يأتكم رسلي بالبينات ؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري ؟ كما أُبر جلّ ثناؤه أنه قائل لهم يومئذٍ : ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ألاّ تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ وأنِ اعْبُدونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ونحو ذلك من القول الذي ظاهره مسألة ، ومعناه الخبر والقصص وهو بعد توبيخ وتقرير . وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر ، فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها : ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبّكُمْ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا : ما جاءنامن بشير ولا نذير ، فقيل للرسل : هل بلّغتم ما أُرْسلتم به ؟ أو قيل لهم : ألم تبّلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به ؟ كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما قال جلّ ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم وللمرسل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ ، وكلّ ذلك بمعنى القصص والخبر . فأما الذي هو عن الله منفىّ من مسألته خلقه ، فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسئول ، ليعلم السائل علم ذلك من قبله . فذلك غير جائز أن يوصف الله به لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها ، وهي المسألة التي نفاها جلّ ثناؤه عن نفسه بقوله : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جانّ ، وبقوله : وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ يعني : لا يسأل عن ذلك أحدا منهم علم مستثبت ، ليعلم علم ذلك من قبل من سأل منه ، لأنه العالم بذلك كله وبكلّ شيء غيره . وقد ذكرنا ما رُوي في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضع ، فكرهنا إعادته . وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله : فَلَنقُصّنّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم . هذا قول غير بعيد من الحقّ ، غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ سَيُكَلّمُهُ رَبّهُ يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ ، فَيَقُولُ لَهُ : أتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَفَعَلْتَ كَذَا ؟ حتى يُذَكّرَهُ ما فَعَلَ فِي الدّنْيا » . والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره .
الفاء في قوله : { فلنقصن عليهم } للتفريع والتّرتيب على قوله : { فلنسألن } ، أي لنسألنّهم ثمّ نخبرهم بتفصيل ماأجمله جوابهم ، أي فلنقصّنّ عليهم تفاصيل أحوالهم ، أي فعِلْمُنا غَنِي عن جوابهم ولكن السّؤال لغرض آخر .
وقد دلّ على إرادة التّفصيل تنكيرُ علم في قوله : { بعلم } أي علم عظيم ، فإنّ تنوين ( عِلم ) للتعظيم ، وكمالُ العلم إنّما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة ، وزاد ذلك بياناً قولُه : { وما كنا غائبين } الذي هو بمعنى : لا يعزب عن علمنا شيء يغيب عنّا ونغيب عنه .
والقَصّ : الاخبار ، يقال : قصّ عليه ، بمعنى أخبره ، وتقدّم في قوله تعالى : { يقص الحقّ } في سورة الأنعام ( 57 ) .
وجملة : { وما كنا غائبين } معطوف على { فلنقصن عليهم بعلم } ، وهي في موقع التّذييل .
والغائب ضدّ الحاضر ، وهو هنا كناية عن الجاهل ، لأنّ الغيبة تستلزم الجهالة عرفاً ، أي الجهالة بأحوال المَغيب عنه ، فإنّها ولو بلغتْه بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد ، أي : وما كنّا جاهلين بشيء من أحوالهم ، لأنّنا مطّلعون عليهم ، وهذا النّفي للغيبة مثل إثبات المعيَّة في قوله تعالى : { وهو معكم أينما كنتم } [ الحديد : 4 ] .
وإثباتُ سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى : { ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون } [ القصص : 78 ] وقوله { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] لأنّ المسؤول عنه هنا هو التّبليغ والمنفيَّ في الآيتين الآخريين هو السّؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم وهو الذي أريد هنا قوله : { وما كنا غائبين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.