الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} (7)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فلنخبرنّ الرسل ومن أرسلتهم إليه بيقين علم بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به، وما كنت نهيتهم عنه، وما كنا غائبين عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها. فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم، وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟ قيل: إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم، وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر، كما يقول الرجل للرجل: ألم أحسن إليك فأسأت؟ وألم أصلك فقطعت؟ فكذلك مسألة الله المرسل إليهم بأن يقول لهم: ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري؟ كما أُخبر جلّ ثناؤه أنه قائل لهم يومئذٍ:"ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ألاّ تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ وأنِ اعْبُدونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ" ونحو ذلك من القول الذي ظاهره مسألة، ومعناه الخبر والقصص وهو بعد توبيخ وتقرير. وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر، فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: "ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبّكُمْ "أنكر ذلك كثير منهم وقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقيل للرسل: هل بلّغتم ما أُرْسلتم به؟ أو قيل لهم: ألم تبّلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به؟ كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال جلّ ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم وللمرسل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ، وكلّ ذلك بمعنى القصص والخبر. فأما الذي هو عن الله منفي من مسألته خلقه، فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسؤول، ليعلم السائل علم ذلك من قبله فذلك غير جائز أن يوصف الله به لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، وهي المسألة التي نفاها جلّ ثناؤه عن نفسه بقوله: "فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جانّ"، وبقوله:"وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ" يعني: لا يسأل عن ذلك أحدا منهم علم مستثبت، ليعلم علم ذلك من قبل من سأل منه، لأنه العالم بذلك كله وبكلّ شيء غيره. وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: "فَلَنقُصّنّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ" أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم. هذا قول غير بعيد من الحقّ، غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ سَيُكَلّمُهُ رَبّهُ يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ، فَيَقُولُ لَهُ: أتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَفَعَلْتَ كَذَا؟ حتى يُذَكّرَهُ ما فَعَلَ فِي الدّنْيا». والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وعلى هذا يخرج الابتلاء منه والامتحان لتقرير الأمر والنهي لا لإظهار شيء خفي عليه، وإن كان في الشاهد يكون لذلك، أو أن يصير ما قد خفي عليهم باديا ظاهرا عندهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم {بِعِلْمٍ} عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم. {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم وعما وجد منهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{بعلم} أي: بحقيقة ويقين...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} أي نسرد عليهم أعمالهم قصّة قصّة {بعلم} منّا لذلك واطّلاع عليه. {وما كنّا غائبين} عن شيء منه، بل علمنا محيط بجميع أعمالهم، ظاهرها وباطنها، وهذا من أعظم التوبيخ والتقريع حيث يقرّون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقصّ الله عليهم أعمالهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان السؤال يفهم خفاء المسؤول عنه على السائل، سبب عن ذلك ما يزيل هذا الوهم بقوله مؤذناً بأنه أعلم من المسؤولين عما سألهم عن: {فلنقصن} أي بما لنا من صفات العظمة المستلزمة لكل كمال {عليهم} أي المسؤولين من الرسل وأممهم، جميع أحوالهم وما يستحقون من جزائها {بعلم} أي مقطوع به لا مظنون، فقد كنا معهم في جميع تقلباتهم {وما كنا} أي في وقت من الأوقات كما هو مقتضى ما لنا من العظمة {غائبين} أي مطلقاً ولا عن أحد من الخلق، بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة ومقتضى ما لنا من صفات الكمال، ومن لم يكن محيط العلم بأن يميز المطيع من العاصي لا يصح أن يكون إلهاً...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الفاء في قوله: {فلنقصن عليهم} للتفريع والتّرتيب على قوله: {فلنسألن}، أي لنسألنّهم ثمّ نخبرهم بتفصيل ما أجمله جوابهم، أي فلنقصّنّ عليهم تفاصيل أحوالهم، أي فعِلْمُنا غَنِي عن جوابهم ولكن السّؤال لغرض آخر.

وقد دلّ على إرادة التّفصيل تنكيرُ علم في قوله: {بعلم} أي علم عظيم، فإنّ تنوين (عِلم) للتعظيم، وكمالُ العلم إنّما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة، وزاد ذلك بياناً قولُه: {وما كنا غائبين} الذي هو بمعنى: لا يعزب عن علمنا شيء يغيب عنّا ونغيب عنه.

والقَصّ: الاخبار، يقال: قصّ عليه، بمعنى أخبره، وتقدّم في قوله تعالى: {يقص الحقّ} في سورة الأنعام (57).

وجملة: {وما كنا غائبين} معطوف على {فلنقصن عليهم بعلم}، وهي في موقع التّذييل.

والغائب ضدّ الحاضر، وهو هنا كناية عن الجاهل، لأنّ الغيبة تستلزم الجهالة عرفاً، أي الجهالة بأحوال المَغيب عنه، فإنّها ولو بلغتْه بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد، أي: وما كنّا جاهلين بشيء من أحوالهم، لأنّنا مطّلعون عليهم، وهذا النّفي للغيبة مثل إثبات المعيَّة في قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4].

وإثباتُ سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى: {ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: 78] وقوله {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39] لأنّ المسؤول عنه هنا هو التّبليغ والمنفيَّ في الآيتين الأخريين هو السّؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم وهو الذي أريد هنا قوله: {وما كنا غائبين}.