قوله تعالى : { قال قائل منهم } يعني : من أهل الجنة : { إني كان لي قرين } في الدنيا ينكر البعث . قال مجاهد : كان شيطاناً . وقال الآخرون : كان من الإنس . وقال مقاتل : كانا أخوين . وقال الباقون : كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا ، وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى : { واضرب لهم مثلاً رجلين } .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَدِينُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قائل من أهل الجنة إذ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون : إني كانَ لي قَرِينٌ فاختلف أهل التأويل في القرين الذي ذُكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : كان ذلك القرين شيطانا ، وهو الذي كان يقول له : أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ بالبعث بعد الممات . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : إنّي كانَ لي قَرِينٌ قال : شيطان . وقال آخرون : ذلك القرين شريك كان له من بني آدم أو صاحب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إنّي كانَ لِي قَرِينٌ يقول أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ قال : هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان ، فيقول له المشرك : إنك لتُصدّق بأنك مبعوث من بعد الموت أئذا كنا ترابا ؟ فلما أن صاروا إلى الاَخرة وأدخل المؤمُن الجنة ، وأدخل المشرك النار ، فاطلع المؤمن ، فرأى صاحبه في سَواء الجحيم قَالَ تَاللّهِ إنْ كِدْتَ لُتردِينِ .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : عتاب بن بشير ، عن خَصيف ، عن فُرات بن ثعلبة البهراني في قوله : إنّي كانَ لِي قَرِينٌ قال : إن رجلين كانا شريكين ، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دِينار ، وكان أحدهما له حرفة ، والاَخر ليس له حرفة ، فقال الذي له حرفة للاَخر : ليس لك حرفة ، ما أُراني إلا مفارقك ومُقاسمك ، فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك قد مات فدعا صاحبه فأراه ، فقال : كيف ترى هذه الدار ابتعُتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها فلما خرج قال : اللهمّ إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار ، وإني أسألك دارا من دور الجنة ، فتَصَدّقَ بألف دينار ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه تزوّج امرأة بألف دينار ، فدعاه وصنع له طعاما فلما أتاه قال : إني تزوّجت هذه المرأة بألف دينار قال : ما أحسن هذا فلما انصرف قال : يا ربّ إن صاحبي تزوّج امرأة بألف دينار ، وإني أسألك امرأة من الحُور العين ، فتصدّق بألف دينار ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه ، فقال : إني ابتعت هذين البستانين ، فقال : ما أحسن هذا فلما خرج قال : يا ربّ إن صاحبي قد اشترى بساتين بألفي دينار ، وأنا أسألك بستانين من الجنة ، فتصدّق بألفي دينار ثم إن الملك أتاهما فتوفّاهما ثم انطلق بهذا المتصدّق فأدخله دارا تعجبه ، فإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حُسنها ، ثم أدخله بستانين ، وشيئا الله به عليم ، فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا . قال : فإنه ذاك ، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة . قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ قيل له : فإنه من الجحيم ، قال : فهل أنتم مُطّلِعون ؟ فاطّلَع فرآه في سواء الجحيم ، فقال عند ذلك : تاللّهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبي لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ . . . الاَيات . .
وهذا التأويل الذي تأوّله فرات بن ثعلبة يقوّي قراءة من قرأ «إنّكَ لمِنَ المُصّدّقِينَ » بتشديد الصاد بمعنى : لمن المتصدقين ، لأنه يذكر أن الله تعالى ذكره إنما أعطاه ما أعطاه على الصدقة لا على التصديق ، وقراءة قرّاء الأمصار على خلاف ذلك ، بل قراءتها بتخفيف الصاد وتشديد الدال ، بمعنى : إنكار قرينه عليه التصديق أنه يبعث بعد الموت ، كأنه قال : أتصدّق بأنك تبعث بعد مماتك ، وتُجْزَى بعملك ، وتحاسَب ؟ يدل على ذلك قول الله : أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَدِينونَ وهي القراءة الصحيحة عندنا التي لا يجوز خِلافُها لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
وقوله : أئِنّا لَمَدِينُونَ يقول : أئنا لمحاسبون ومجزيّون بعد مصيرنا عظاما ولحومنا ترابا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أئِنّا لَمَدِينُونَ يقول : أئنا لمجازوْن بالعمل ، كما تَدِين تُدان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أئِنّا لَمَدينُونَ : أئنا لمحاسبون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أئِنّا لَمَدينُونَ محاسبون .
وجملة { قَالَ قائِلٌ مِنهم } بدل اشتمال من جملة { يَتَسَاءَلُونَ } ، أي قال أحدهم في جواب سؤال بعضهم ، فإن معنى التساؤل يشتمل على معنى الجواب فلذلك جعلناه بدل اشتمال لا بدل بعض ولا عطف بيان ، والقرين مراد به الجنس ، فإن هذا القول من شأنه أن يقوله كثير من خلطاء المشركين قبل أن يُسْلموا .
والقرين : المصاحب الملازم شبهت الملازمة الغالبة بالقرْن بين شيئين بحيث لا ينفصلان ، أي يقول له صاحبه لما أَسلم وبقي صاحبه على الكفر يجادله في الإِسلام ويحاول تشكيكه في صحته رجاء أن يرجع به إلى الكفر كما قال سعيد بن زيد : « لقد رأيتُني وأنَّ عُمر لمُوثقي على الإِسلام » أي جاعلني في وثاق لأجل أني أسلمت ، وكان سعيد صهر عُمر زوْجَ أخته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال قائل من أهل الجنة إذ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون:"إني كانَ لي قَرِينٌ" فاختلف أهل التأويل في القرين الذي ذُكر في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: كان ذلك القرين شيطانا، وهو الذي كان يقول له: "أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ "بالبعث بعد الممات...
وقال آخرون: ذلك القرين شريك كان له من بني آدم أو صاحب... عن ابن عباس، قوله: "قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إنّي كانَ لِي قَرِينٌ يقول أئِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقِينَ" قال: هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان، فيقول له المشرك: إنك لتُصدّق بأنك مبعوث من بعد الموت أئذا كنا ترابا؟ فلما أن صاروا إلى الاَخرة وأدخل المؤمُن الجنة، وأدخل المشرك النار، فاطلع المؤمن، فرأى صاحبه في سَواء الجحيم "قَالَ تَاللّهِ إنْ كِدْتَ لُتردِينِ"... وقوله: "أئِنّا لَمَدِينُونَ" يقول: أئنا لمحاسبون ومجزيّون بعد مصيرنا عظاما ولحومنا ترابا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر الله تعالى عن قول {قائل منهم} في قصته؛ فهو مثال لكل من له {قرين} سوء يعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء، واستشعار معصيتهم، وعبر عن قول هذا الرجل بالمضي من حيث كان أمراً متيقناً حاصلاً لا محالة.
وقالت فرقة: هما اللذان ذكر الله تعالى في قوله {يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} [الفرقان: 28].
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
حكى تعالى عن بعضهم ما حكى، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تشوف السامع إلى سماع شيء منها يكون نموذجاً للباقي، أشار إلى ذلك بقوله مستأنفاً: {قال قائل منهم} أي في هذا التساؤل، وشتان ما بينه وبين ما مضى خبره من تساؤل أهل النار.
ولما كان ظنه أنه لا يخلص من شر ذلك القرين الذي يحدث عنه فنجاه الله منه على خلاف الظاهر، فكان ذلك إحدى النعم الكبرى، نبه عليه بالتأكيد فقال: {إني كان لي قرين} أي جليس من الناس كأنه شيطان مبين
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
يقُولُ لي: على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب، والمعنى: فهنا قد صدقنا ربنا وعده، وأحل بالقرين وعيده.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
قال قائل من أهل الجنة: إني كان لي قرين في الدنيا يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبا: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعد من البله والمجانين الذين لا ينبغي مخاطبتهم ولا الدخول معهم في بابا الجدل والخصام، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القرين: المصاحب الملازم شبهت الملازمة الغالبة بالقرْن بين شيئين بحيث لا ينفصلان، أي يقول له صاحبه لما أَسلم وبقي صاحبه على الكفر يجادله في الإِسلام ويحاول تشكيكه في صحته رجاء أن يرجع به إلى الكفر كما قال سعيد بن زيد: « لقد رأيتُني وإنَّ عُمر لمُوثقي على الإِسلام» أي جاعلني في وثاق لأجل أني أسلمت، وكان سعيد صهر عُمر زوْجَ أخته.