قوله تعالى : { كلوا وارعوا } أي : وارتعوا { أنعامكم } تقول العرب : رعيت الغنم فرعت . أي : أسيموا أنعامكم ترعى { إن في ذلك } الذي ذكرت { لآيات لأولي النهى } لذوي العقول واحدها : نهية . سميت نهية لأنها تنهى صاحبها عن القبائح والمعاصي . قال الضحاك : ( لأولي النهى ) الذين ينتهون عما حرم عليهم . قال قتادة : لذوي الورع .
ولهذا قال : { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } وسياقها على وجه الامتنان ، ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النوابت الإباحة ، فلا يحرم منهم إلا ما كان مضرا ، كالسموم ونحوه .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي : لذوي العقول الرزينة ، والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه ، ورحمته ، وسعة جوده ، وتمام عنايته ، وعلى أنه الرب المعبود ، المالك المحمود ، الذي لا يستحق العبادة سواه ، ولا الحمد والمدح والثناء ، إلا من امتن بهذه النعم ، وعلى أنه على كل شيء قدير ، فكما أحيا الأرض بعد موتها ، إن ذلك لمحيي الموتى .
وخص الله أولي النهى بذلك ، لأنهم المنتفعون بها ، الناظرون إليها نظر اعتبار ، وأما من عداهم ، فإنهم بمنزلة البهائم السارحة ، والأنعام السائمة ، لا ينظرون إليها نظر اعتبار ، ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها ، بل حظهم ، حظ البهائم ، يأكلون ويشربون ، وقلوبهم لاهية ، وأجسامهم معرضة . { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }
والأمر فى قوله - سبحانه - { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } للإباحة .
أى : هذه الأرض وما اشتملت عليه من طرق ومن نبات شتى هى لمنفعتكم ومصلحتكم ، فكلوا - أيها الناس - من هذه الثمار المتنوعة التى انشقت عنها الأرض ، وارعوا أنعامكم من إبل وبقر وغنم فى المكان الصالح للرعى من هذه الأرض ، واشكروا الله - تعالى - على هذه النعم لكى يزيدكم منها .
واسم الإشارة فى قوله { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } يعود إلى المذكور من تلك النعم السابقة .
و { النهى } جمع نهية - بضم النون وإسكان الهاء - وهى العقل . سمى بذلك لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق . تقول العرب : نهو الرجل - ككرم - إذا كملت نهيته ، أى عقله .
والمعنى : إن فى ذلك الذى ذكرناه لكم من نعمة تمهيد الأرض ، وجعل الطرق فيها : وإنزال المطر عليها ، وإخراج النبات منها . . . إن فى كل ذلك لآيات وعظات وعبر ، لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ } .
يقول تعالى ذكره : كلوا أيها الناس من طيب ما أخرجنا لكم بالغيث الذي أنزلناه من السماء إلى الأرض من ثمار ذلك وطعامه ، وما هو من أقواتكم وغذائكم ، وارعوا فيما هو أرزاق بهائمكم منه وأقواتها أنعامكم إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ يقول : إن فيما وصفت في هذه الاَية من قدرة ربكم ، وعظيم سلطانه لاَيات : يعني لدلالات وعلامات تدلّ على وحدانية ربكم ، وأن لا إله لكم غيره أُوِلي النّهَى يعني : أهل الحجى والعقول . والنهي : جمع نُهية ، كما الكُشَي : جمع كُشْيَة .
قال أبو جعفر : والكُشَي : شحمة تكون في جوف الضبّ ، شبيهة بالسرّة وخصّ تعالى ذكره بأن ذلك آيات لأولي النّهَي ، لأنهم أهل التفكّر والاعتبار ، وأهل التدبر والاتعاظ .
الجملة الثانية { كُلُوا وارْعوا أنعامكُم } مقول قول محذوف هو حال من ضمير { فأخرجنا } .
والتقدير : قائلين : كُلوا وارعوا أنعامكم . والأمر للإباحة مراد به المنّة . والتقدير : كلوا منها وارعوا أنعامكم منها . وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع .
وفعل ( رعى ) يستعمل قاصراً ومتعدياً . يقال : رعت الدابةُ ورعاها صاحبها . وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر : الرّعي ، ومصدر المتعدي : الرعاية . ومنه قول النّابغة :
والجملة الثالثة إنَّ في ذلك لآياتٍ لأُوْلِى النهى } معترضة مؤكدة للاستدلال ؛ فبعد أن أُشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفاً من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته ، والمنّة بها على الإنسان لمن تأمل ، جُمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة . وكلّ من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة .
وتأكيد الخبر بحرف ( إنّ ) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين ، لأنّهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله ، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النّهى ، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلاّ لأنهم لم يَعُدوها آيات . لا جرم أنّ ذلك المذكور مشتمل على آيات جمّة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمّل والتفكّر ، وينتبهون لها بالتذكير .
والنُهى : اسم جمع نُهْية بضم النون وسكون الهاء ، أي العقل ، سمي نُهية لأنّه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة ، ولذلك أيضاً سمّي بالعقل وسمي بالحِجْر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كلوا أيها الناس من طيب ما أخرجنا لكم بالغيث الذي أنزلناه من السماء إلى الأرض من ثمار ذلك وطعامه، وما هو من أقواتكم وغذائكم، وارعوا فيما هو أرزاق بهائمكم منه وأقواتها أنعامكم.
"إنّ فِي ذلكَ لآياتٍ" يقول: إن فيما وصفت في هذه الآية من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه لآيات: يعني لدلالات وعلامات...تدلّ على وحدانية ربكم، وأن لا إله لكم غيره...
"أُوِلي النّهَى" يعني: أهل الحجى والعقول...
وخصّ تعالى ذكره بأن ذلك آيات لأولي النّهَي، لأنهم أهل التفكّر والاعتبار، وأهل التدبر والاتعاظ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأولو النهى: هم أهل العقول، لأنه بالعقل ينهى، وبه يؤمر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"كلوا وارعوا أنعامكم" لفظه لفظ الأمر، والمراد الإباحة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هيَّأَ لهم أسبابَ المعيشة، وكما نَظَرَ إليهم وَرَزَقَهُم رَزَقَ دوابَّهم التي ينتفعون بها، وأَمَرَهُم أنْ يَتَقَووْا بما تَصِلُ إليه أيديهم، وأنْ ينتفِعُوا -ما أمكنهم- بأَنْعَامِهمِ لِيَكْمُلَ لديهم إنْعَامُهم.
... والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها. وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله "فمن ربكما يا موسى". وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل {أخرجنا}: {كلوا} أي ما دبره لكم بحكمته منها {وارعوا} أي سرحوا في المراعي {أنعامكم} ما أحكمه لها ولا يصلح لكم، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يقدرون على أكله، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها، وتباين أصنافها، وتباعد أوصافها، وعلى كثرتهم، وتنائي أمزجتهم، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره، فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا بد أن يظهر له فيه نقص ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت.
ولما كمل هذا البرهان القويم، دالاً على العليم الحكيم، قال منبهاً على انتشار أنواره، وجلالة مقداره، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين: {إن في ذلك} أي الإنشاء على هذه الوجوه المختلفة {لآيات} على منشئه {لأولي النهى} العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه، وما لا ينفع في حكم العدم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وخص الله أولي النهى بذلك، لأنهم المنتفعون بها، الناظرون إليها نظر اعتبار، وأما من عداهم، فإنهم بمنزلة البهائم السارحة، والأنعام السائمة، لا ينظرون إليها نظر اعتبار، ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها، بل حظهم، حظ البهائم، يأكلون ويشربون، وقلوبهم لاهية، وأجسامهم معرضة. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن في ذلك لآيات لأولي النهى).. وما من عقل مستقيم يتأمل هذا النظام العجيب ثم لا يطلع فيه على آيات تدل على الخالق المدبر الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
(كلوا): تدل على أن الخالق عز وجل خلق الحياة، وخلق مقومات الحياة، وأولها القوت من الطعام والشراب، وهذه المقومات تناسبت فيها الملكية مع الأهمية، فالقوت أولا، ثم الماء، ثم الهواء...وقوله تعالى: {وارعوا أنعامكم}: لأنها تحتاج أيضا إلى القوت...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} لتكون الفائدة مزدوجة في ما تتغذون به، وفي ما تتغذى منه أنعامكم التي جعلها الله لكم غذاء ومركباً، {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِى النُّهَى} الذين يملكون العقول الراجحة ويستخدمونها وسيلة للتفكر في القضايا العقيدية المتصلة بخالق الكون والحياة، التي يستدل عليها من دقة النظام، وعظمة الخلق، ووحدة القوانين الكونية.
وهذا هو الخط القرآني في مسألة العقيدة، حيث يؤكد على المسألة العقلية في حياة الإنسان، فهو يحث العقل على التفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينية، لا الانفعال العاطفي. وبذلك تتلخّص المعادلة القرآنية، في أن الإنسان كلما ازداد عقلاً، كلما انفتح على الإيمان من الباب الواسع، وكلما ضعف إدراكه العقلي، وزاد انفعاله، كلما ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه، خلافاً للفكرة الشائعة التي يرددها الماديون، وهي أن المجتمع المتخلِّف هو الذي يلتزم الطريقة الدينية في الفكر والحياة، بينما يلتزم المجتمع المتحضر المثقّف جانب الطريقة المادية. فإن القرآن يؤكد في أسلوب المعرفة على عنصر الوجدان الذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة، وعلى عنصر العقل الذي يؤكد صفاء الفكر وعمق التأمُّل في التفاصيل، لأن القضية ليست قضية أي فكر ذي طابع ديني، بل هي قضية الفكر الذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتفاصيل، بالطريقة التي تبتعد عن السطحية والخرافة.