ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان أن مشيئته - تعالى - هى النافذة ، فقال : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين } .
أى : وما تشاءون الاستقامة أو غيرها ، إلا إذا شاءها وأرادها الله - تعالى - رب العالمين ، إذ مشيئة الله - تعالى - هى النافذة ، أما مشيئتكم فلا وزن لها إلا إذا أذنت بها مشيئته - تعالى - .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مشيئة لا قيمة لها ولا وزن . . إلا إذا أيدتها مشيئة الله - عز وجل - .
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى ، ويسر الاستقامة ، عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه . .
( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) . .
وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى ، التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار ، ويسر الاهتداء ، إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون !
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق ، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة : حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون ، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين ، ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق ، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق !
وقوله : وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهَ رَبّ العالَمِينَ يقول تعالى ذكره : وما تشاءون أيها الناس الاستقامة على الحقّ ، إلا أن يشاء الله ذلك لكم . وذُكر أن السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن سليمان بن موسى ، لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل : ذلك إلينا ، إن شئنا استقمنا ، فنزلت : وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَب الْعَالَمِينَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن سليمان بن موسى ، قال : لما نزلت هذه الاَية : لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله : وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبّ العالَمِينَ .
حدثني ابن البَرْقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد ، عن سليمان بن موسى ، قال : لما نزلت هذه الاَية : لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل : ذلك إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله : وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبّ العالَمِينَ .
ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتكسبهم أفعال الاستقامة ، ثم بين تعالى أن تكسب المرء على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء ، وروي أنه نزل قوله تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم } فقال أبو جهل : هذا أمر قد وكل إلينا ، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فنزلت { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } يقول الله تعالى : يا ابن آدم تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد{[11669]} .
يجوز أن تكون تذييلاً أو اعتراضاً في آخر الكلام .
ويجوز أن تكون حالاً . والمقصود التكميل والاحتراس في معنى لمن شاء منكم أن يستقيم ، أي ولمن شاء له ذلك من العالمين ، وتقدم في آخر سورة الإنسان قوله تعالى : { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاءون إلا أن يشاء اللَّه إن اللَّه كان عليماً حكيماً } [ الإنسان : 29 ، 30 ] .
والفرق بينهما أن في هذه الآية وُصف الله تعالى ب { ربُّ العالمين } وهو مفيد التعليل لارتباط مشيئة من شاء الاستقامة من العالمين لمشيئة الله ذلك لأنه رب العالمين فهو الخالق فيهم دواعيَ المشيئة وأسبابَ حصولها المتسلسلة وهو الذي أرشدهم للاستقامة على الحق ، وبهذا الوصف ظهر مزيد الاتصال بين مشيئة الناس الاستقامة بالقرآن وبين كون القرآن ذكراً للعالمين .
وأما آية سورة الإنسان فقد ذيلت : { إنَّ الله كان عليماً حكيماً } [ الإنسان : 30 ] أي فهو بعلمه وحكمته ينوط مشيئته لهم الاستقامة بمواضع صلاحيتهم لها فيفيد أن من لم يشأ أن يتخذ إلى ربه سبيلاً قد حرمه الله تعالى من مشيئته الخير بعلمه وحكمته كناية عن شقائهم .
و { ما } نافية ، والاستثناء من مصادر محذوفة دل عليها قوله : { إلا أن يشاء اللَّه } وتقدم بيان ذلك في سورة الإنسان .
وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربّهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها ، وهذه العناية معنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنه ، فمنهم من تطوح به إلى الجبر ومنهم من ارتمى في وهدة القدر ، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة وبعضهم سماها كسباً . وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عبادَه التأدب مع جلاله .
وهذا أقصى ما بلغت إليه الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . ومن ورائه سلك دقيق يشُدّه قد تقصر عنه الأفهام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما تشاءون أيها الناس الاستقامة على الحقّ، إلا أن يشاء الله ذلك لكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لمن شاء منكم} على تحقيق المشيئة، فمعناه: إنكم لا تشاؤون الاستقامة على ما ذكرنا إلا أن يشاء الله. وإن كان على تحقيق الفعل فتأويله أنكم ما استقمتم على الطريقة إلا بمشيئة الله تعالى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وما تشاءون شيئا إلا أن يشاء الله تمكينكم منه، لأن الكلام يقتضي الاقتدار على تمكينهم إذا شاء ومنعهم إذا شاء...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
وفيه إعلام أن أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله، ولا شراً إلا بخذلانه...
ثم بين أن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله فقال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما تشاءون} أي أيها الخلائق الاستقامة {إلا أن يشاء الله} أي الملك الأعلى الذي لا حكم لأحد سواه مشيئتكم، وإن لم يشأها لم تقدروا على مشيئة، فادعوه مخلصين له الدين يشأ لكم ما يرضيه فيوفقكم إليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين).. وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى، التي يرجع إليها كل أمر. فإعطاؤهم حرية الاختيار، ويسر الاهتداء، إنما يرجع إلى تلك المشيئة. المحيطة بكل شيء كان أو يكون! وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة: حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله. وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير. شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {ما} نافية، والاستثناء من مصادر محذوفة دل عليها قوله: {إلا أن يشاء اللَّه} وتقدم بيان ذلك في سورة الإنسان. وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربّهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية معنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنه، فمنهم من تطوح به إلى الجبر ومنهم من ارتمى في وهدة القدر، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة وبعضهم سماها كسباً. وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عبادَه التأدب مع جلاله. وهذا أقصى ما بلغت إليه الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن ورائه سلك دقيق يشُدّه قد تقصر عنه الأفهام...
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
إذا دخلنا إلى سورة "التكوير "دخلنا إلى عالم جديد، عالم جديد أبْتدئه هكذا، بشيء أسميتُه بالهدى الإجمالي للسورة:
لا يستقيم سَيْرُ البدايات حتى يسْتقيم تصَوُّرُ النهايات، ولا استقامة لسَيْر الإنسان بغير هدى القرآن.
هذا فعلا هو الهدى الإجمالي للسورة.
السورة إذا تشَرَّبَها عبد، وصحبها صحبة عميقة -نسأل الله التوفيق لنا ولكم ولجميع المسلمين- فإنه يخرج بهذه النتيجة.
لماذا ابتدأ الله عز وجل بهذه المشاهد الأولى المتعلقة بأهوال يوم القيامة؟! لمَهْ؟
لأنها النهاية، والعبد لا ينطلق ولا يتضح لديه الاتجاه، إلا إذا اتضحت النهاية.
آنذاك يسهل عليه السير في الاتجاه الصحيح نحوها. إذا لم تتضح القِبْلة/النهاية فإنه يظل ضاربا في غير اتجاه.
ولتحقيق هذا الوضوح للعبيد ها هنا، رُسم الطريق بكامله إلى العالم الآخر، إلى النهاية. من ها هنا بدأ، ثم جاء بعد ذلك رسْمُ الطريق إلى هذه النهاية، وهو طريق القرآن.
هذه الخلاصة: لا يستقيم سير البدايات -بصفة عامة- حتى يستقيم التصور للنهايات.
ولا استقامة لسير الإنسان وهو يتجه إلى النهايات بغير هدى القرآن الذي هو السبيل وهو الهدى \(\قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى\)\ [الأنعام: 71].
- الهدى الأول: بداية اليقظة استحضار أهوال اليوم الآخر وكأنها تشاهد متلاحقة.
- الهدى الثاني: بداية الوعي القويم، التفسير الصحيح للظاهرة القرآنية والقول القرآني.
- الهدى الثالث: بدايةُ الاستقامة في السير، العلْم بوظيفة القرآن الكريم.
هذه هي المحطات الكبرى في السورة.
وقد جاء الهدى فيها ملخصا مفصّلا أيضا، وتحت كل نقطة نقط فرعية، صغيرة.
الهدى الأول: بدايةُ اليقظة يقظة العبد، ليخرج من عالم الغفلة، ويخرج من عالم النسيان، ويخرج من عالم سكْرَة الحياة ومن نومة الحياة.
فالحياة نوْمة والناس فيها نيام، فإذا ماتوا استيقظوا \(\لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ\)\ [الحجر: 72].
وليخرج العبد منها عليه أن يبتدئ في اليقظة، وليبتدئ في هذه اليقظة يحتاج إلى استحضار أهوال اليوم الآخر وكأنها تُشَاهَد.
فقبل أن يقول الله جل جلاله أيَّ كلمة عن هذا القرآن، وعن الرسول، بدأ في عرض هذه المشاهد متتابعات، وصورها تصويراً حيا وكأنها تُشَاهَد، معتبرا لها كأن قد مضت وكأن قد حدثت.
المرحلة الأولى: مشاهد السماء و ما يجري فيها.
وهذه نقطة سنجدها في عدة سور. بداية الانقلاب الكوني، بداية تبدل الأرض والسماوات، الكل يبتدئ من السماء ثم ينزل إلى الأرض، ثم يعْقبه ما يعقُبه.
المرحلة الأولى مرحلة السماء وما يجري فيها من لَفِّ وانطفاء للشمس، وظلمة وتناثر للنجوم والكواكب، في الآيتين \(\إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ\)\.
هذا في السماء \(\إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ\)\ لُفّتْ، ودخل بعضها في بعض وانطوت، أي انتهت لأنها هي الأهم، وهي في وضع قرص كبير جداً تمتد منه ألسنة اللهب عبر آلاف الأميال. وإنما يراها العلماء الآن عند الكسوف الكلي، إذ تظهر بوضوح هذه الألسنة اللهبية الممتدة بآلاف الأميال، فالشمس تظهر لنا في شكل كرة في الأحوال العادية، ولكنها جحيم، جحيم لهب كبير جدا جدا جدا، لا نستطيع تصور مقدار الحرارة والالتهاب الموجودين في الشمس، ولا هذه الألسنة "الألسنة اللهبية" التي تمتد منها آلاف الأميال.
أقول: هذه الشمس الممتدة بهذا الحجم الضخم ستَلْتَفُّ من جديد ويدخل بعضها في بعض وتنطفئ وتنتهي.
والعلماء أخذوا من كوْرِ العمامة ومن أمثلة أخرى هذا المعنى الذي فيه اللَّفّ، ودخولُ البعض في البعض، وذلك للتقريب؛ لأنه لا أحد يعرف الحالة بالضبط إلا الذي أوحى إلينا هذا القرآن، هو الذي يعْرِف بالضبط ماذا يقصد بتكوير الشمس، ولكن التكوير تقريبٌ للمعنى إلينا بلغتنا وبفهمنا، وهذا من عظمة هذا القرآن الكريم، وعظمة الله جلّ جلاله الذي أوحى به؛ لأنه بفضله عز وجل يسّر لنا، وقرّب إلينا فهم القرآن رغم البعد الشديد الذي لا حدّ له بين المخلوق والخالق، ومع ذلك يسّر لنا الذّكر، يسر لنا القرآن باللغة المستعملة العادية لتقريب هذه المعاني الضخمة.
فأولا مرحلة السماء وما يجري فيها من لَفِّ وانطفاء للشمس، وظلمة وتناثر للنجوم والكواكب؛ لأن الانكدار والكُدْرة بصفة عامة ضد الصفاء. والانكدار فيه معنى هذه الكُدرة كأنه عمل طوعي نتيجة علاقة بغيره، ومن جهة أخرى فيه معنى التناثر أيضا والتساقط، فكأنه سيحدث أيضا في ذلك الوقت انطفاء لهذه النجوم أي انكدار، خصوصا إذا فهمنا أنه كان يطلق على الكواكب أيضا النجوم في ذلك الزمان أي الكواكب التي تأخذ نورها، وتسطع في السماء نتيجة انعكاس ضوء الشمس عليها، كما هو حال القمر الآن.
فالقمر ليس له ضوء ذاتي، والكواكب -بصفة عامة- في الاصطلاح الجغرافي الفلكي ليس لها ضوء ذاتي، بل هي تعكس ضوء غيرها من النجوم، فهي تنطفئ تلقائيا بانطفاء المصدر الضوئي الذي يعطيها الأشعة.
ولكن من جانب آخر هناك معنى الانتثار والتساقط كأن خللا في النظام العام الكوني يحدث أيضا، وتزول هذه الأشياء التي ظلت تحفظ الكون إلى الآن وتجعله محفوظاً في نظام تام لا يتقدم ولا يتأخر، نحن نرى الآن على سبيل المثال الأرض في دورتها حول الشمس، أو في دورتها حول نفسها، أو في سيرها في المجرة التي تنتمي إليها، كل ذلك لا يتقدم ولا يتأخر.
فأمور الكون وأحواله في غاية الضبط والحفظ كما قال الله عز وجل: \(\وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ\)\ [البقرة: 254].
المرحلة الثانية: مرحلة الأرض وما يجري عليها من تسيير الجبال ونسفها، ووضع العِشَار أحمالَها، وحشر الوُحوش ذاهلةً عن فرائسها، وتفجير البحار مضطرمة نيرانها، هذه مشاهد أرضية ستحدث بعد المشاهد السماوية.
مشهدان للسماء كبيران: في الشمس أولا ثم في النجوم ثانيا.
وأربعة مشاهد في الأرض يذكرها الله عز وجل:
- أولا: الجبال \(\وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا\)\ [طه: 103] فهناك عُبِّر بالنسف وهنا عُبِّر بالتسيير، وقد يكون هذا التسيير بداية النسف.
على كل حال فالمقصود هو أن الجبال ستتزحزح عن مواقعها رغم أن الله عز وجل جعلها أوتاد الأرض، ورواسي الأرض، فهي النقط المستقرة أكثر من غيرها في الكرة الأرضية. تلك النقط المستقرة ستُسَيَّر من أماكنها، بل ستُنْسف نسفا، هذا في هذا المشهد.
- ثانيا: العِشار \(\وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ\)\وضْعُ العِشار أحْمَالها، العِشار جمع عُشَراء: والعُشراء هي الناقة التي وصلت الشهر العاشر من حملها، وهي كرائم مال العرب الذين خوطبوا أول مرة بهذا الكلام.
خير ما يملكون هي العشار، وزينتها وحُلِيُّها ما هو؟ هو كونها عُشْرة، هو كونها حاملاً فهي في ذلك الوقت محبوبة لديهم، وأحسن منظراً وأغلى ثمنا، وأكرم عنصراً الخ، هذه العشار العزيزة على النفس ستُعَطَّل من زينتها كما قال تعالى في الآية الأخرى: \(\يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا\)\ [الحج: 2] ومنها العِشار.
- ثالثاً: الوحوش \(\وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ\)\.
معروف أن السباع تفر من بعضها خوفا، ولكن أمام الهول لا تعرف أين تتجه، هي الآن تجتمع مع بعضها، فيجتمع الأسد مع الظبية ولا إشكال، كما قال الله عز وجل في آية أخرى بالنسبة إلى الناس كيف يُبعَثُون، وذلك حين سألته السيدة عائشة رضي الله عنها عن حال الناس في البعث فقال: "الأمر أشد من أن يهمهم ذاك"، لا يستطيع أحدٌ أن ينظر إلى أحد.
- رابعا: البحار وهي في أصلها مياه، ومع ذلك فجِّرَت، في آية أخرى \(\وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ\)\ [الانفطار: 3] يعني سُجِّرت: هُيِّجت. التسجير: تهييج النار، سُجِّرت النار: سُجِرت، وسجِّرت مبالغة، وتهييجُ النار إضرامُها وجعلُها مضطرمة جدا.
هذا الضّرم للنار، أو التضريم للنار، كيف يُتصور في البحر؟!
البحر الذي هو ماء يصير ناراً، يتفجر ناراً، كأن الأرض قد أخرجت أثقالها.
وقد أصبح الآن معروفاً على مستوى الجغرافيا وعلى مستوى الجيولوجيا "علم طبقات الأرض" أن باطن الأرض نارٌ، وهذه البراكين إنما هي تنفسات لهذه النيران، تنفسات فقط لهذه النيران الموجودة في باطن الأرض، فتفجير البحار، وتسجيرها معناه أن تختلَّ الموازين، تختلّ الأنظمةُ القائمة الموجودة الآن؛ لأن الكون سيتبدل حتما، حين سيصدر الأمر له بالتبدّل \(\يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ..\)\ [إبراهيم: 50].
فهذه أربعة من المشاهد الأرضية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الإنسان وما يجري له، ولأنواعه من تحضير للحساب، وتعجيل بسؤال الوائدين لبناتهم بغير ذنب، ونشر الكتب والصحف المحصية لكل كسب أو اكتساب.
هذه المرحلة بدايتها \(\وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ\)\التزويج: جمع شيء مع زوجه، ذكر العلماء معنيين مهمين من معاني التزويج:
الأول عوْدة الأرواح إلى أجسادها استعدادا للحساب، ومعناه: البعث والنشور. فهذا التزويج متعلق إذن بتزويج الروح والجسد، فهما زوجان متكاملان.
الثاني هو: تصنيفهم أصنافا وأنواعا استعداداً لما بعد، الأنواع التي ستذهب إلى النار، والأنواع التي ستذهب إلى الجنة.
فهي استعدادات في مجال الإنسان: تحضير تزويج النفوس في هذا الاتجاه، هو التحضير ليوم الحساب.
ومن التحضير للحساب التعجيلُ بسؤال الوائدين بغير ذنب.
كأنه من شدة فظاعة هذا الجرم، الذي كان يفعل بالإناث من النساء بوأدهن ظلما يعجُّل النظر فيه، فقبل الحساب يُسْأل أصحابُه عنه لخطورة هذا الجرم \(\وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ\)\.
وطبعا لا نتجه إلى تفسير كيف كان حال الأوضاع المزرية التي وجد الإسلام عليها المرأة في الجزيرة العربية؟ وأين رفعها في حُدودِ ثلاث وعشرين سنة؟، أين كانت؟ وأين صارت؟ كلام طويل في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- والسيرة النبوية، لا سبيل إلى الحديث عنه الآن.
المرحلة الرابعة: مرحلة نشر الكتب والصحف المحصية لكل كسب أو اكتساب \(\وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ\)\ أي: الصُّحف التي كان يكتب فيها كل شيء \(\وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ\)\ [الانفطار: 10- 11].
كل ما نفعله يحصيه ملكان: ملك عن اليمين، وملك عن الشمال.
هذا الذي يُفعل سيُنْشر إذ ذاك، هذه لحظة آتية بعد الأخرى: أُعِدَّ الناس، زوِّجوا، صُنِّفوا أصنافا استعدادا لما هو قادم، سئل من سُئل؛ نظرا لفظاعة هذا الجرم، بعد ذلك نُشِرت الصحُف، مباشرة استعداداً للحساب بعد، \(\اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا\)\ [الإسراء: 14].
المرحلة الخامسة: مرحلة العالم الآخر الذي سننتهي إليه، العالم الآخر وما يجري به من إعداد لاستقبال أنواع الإنسان.
مِنْ كشف للغطاء عن عالم الخلود، وتضريم لطبقات الجحيم، وتقريب لجنات النعيم.
\(\وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ\)\هذه السماء التي كُشِطَتْ ليست هي السماء الأولى التي كورت فيها الشمس، فبعد زوال الشمس وبعد زوال النجوم سيأتي أخيراً كشط السماء، والكشط في العربية هو السَّلْخُ للإبل.
إذ السلخ يقال في اللسان العربي للبقر والغنم، ولا يقال كشط البقر والغنم، كما لا يقال سلخ الإبل. كل لفظ يستعمل له ما يخصه، فالسلْخُ للبقر والغنم. ويقابلُه الكشطُ للإبل. ومعنى كشط السماء: إزالة هذا الجلد الذي لها. ومعناه أيضا عملية إزالة غطاء، لتنكشف المشاهد التي ستأتي بعد ذلك مباشرة \(\وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ\)\ فماذا نتج؟
\(\وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ\)\ومن الطرائف أن الجحيم في اللسان العربي هي النارُ ذات الطبقات في الوقود. هذه من الطرائف...
فلفظ الجحيم بحد ذاته، كان عند العرب يطلق ليس على أي نار، بل يطلق على النار المكوّنة من طبقات في الوقود، فلهبها شديد جدا، هذه الطبقات تُضَرَّم \(\وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ\)\ صارت مُسْتعرة. وجُحِّمَتْ يعني صارت جحيما أشد.
\(\وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ\)\ \(\وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ\)\هذان المشهدان الأخيران اللذان يتم الاستقبال الذي تحدثت عنْه فيهما. طبعا زُوِّجت النفوس لتصبح فريقين {فريق في الجنة وفريق في السعير}.
الحصيلة: \(\عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ\)\وصلنا إلى الحصيلة التي هي المرحلة الأخيرة.
مرحلة الحصيلة الحاضرة أمام العين التي هي نتيجة مرحلة الاختبار في الدنيا، وأساس دار القرار في النار أو في الجنة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
هذه المشاهد قُصِد بها أن تحضر في قلب المؤمن، أن تحضر في قلب المتلقي لهذا القرآن، لينتقل مباشرة من مشهد إلى مشهد، ليواجه في الأخير النهاية التي هي حصيلة جهده وعمره \(\عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ\)اذا أحضرت؟ خيراً كثيراً، خيراً قليلاً، شراً، ماذا؟ \(\يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا\)\ [آل عمران: 30].
هذا هو المشهد الذي كنت أقصد في البداية: أن بداية اليقظة استحضارُ أهوال اليوم الآخر، وكأنها تُشَاهد.
قبل أن يتحدث القرآن عن القرآن، ومن أين جاء هذا القرآن؟! وما وظيفة هذا القرآن؟.
أولا: حَضَّرَ الإنسان لاستقبال القرآن، أيقظ الإنسان، أيقظ المتلقِّي، هزَّه هزا عنيفا عبر هذه المشاهد المتتالية التي تضعه أمام المصير بصراحة ووضوح \(\عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ\)\ إنها النهاية.
\(\عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ\)\.
إنها إذن خلاصة كسب الدنيا: خلاصة كسب مرحلة الاختبار \(\الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً\)\ [الملك: 2].
إذن تلقائيا: الحياة الدنيا تختصر في النهاية في نتيجة، في حصيلة، هذه الحصيلة إما النار المسعّرة، وإما الجنة المُزْلَفَةُ، هذه تنتظر الداخلين، وهذه تنتظر الداخلين، نسأل الله أن نكون من خَلْقِ الجنة بفضله وكرمه، فهذه المشاهد ذكرت مقدمة لأمر آخر، هو هذا الذي سيبدأ بعد في الهدى الثاني.
الهدى الثاني: بداية الوعي القويم، التفسير الصحيح للظاهرة القرآنية والقول القرآني.
{إنه لقول رسولٍ كريم،.. وما هو بقول شيطان رجيم}.
القول القرآني أو الظاهرة القرآنية بصفة عامة ما تفسيرها؟
نجد في الآيات تفسيراً بأنها نتيجة السحر والجنون، وأنها قول شيطان رجيم، وعدة أشياء ذكرها القرآن في هذه السورة، نافيا معناها.
إذن هناك تفسيرات كثيرة وخاطئة للظاهرة القرآنية، سواء التي ذكرت قبل، أو التي تُذكر اليوم أو غدا.
كلها لا تستقيم مع طبيعة هذا القرآن.
والتفسير الصحيح هو هذا الذي يذكره منزله سبحانه وتعالى، مُنَزِّلُ القرآن يفسر الظاهرة القرآنية عَبْر مراحل أيضا على الشكل التالي:
من قوله تعالى \(\فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)\)\.
أين تذهبون يا بني آدم بتفسيراتكم العجيبة الغريبة؟!
إذن: ما هو ذلك التفسير الصحيح؟ التفسير الصحيح جاء على الشكل التالي:
أولا: إن هذه الظاهرة القرآنية ظاهرة محكومة بالنظام العام لتعاقب الأزواج. لنتذكر أن الله عز وجل قال في آية أخرى \(\وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ\)\ وأن نظام الزوجية نظام كوني شامل كامل عام.
والزوجية لها أشكال: هي نوع من الثنائية كالتي بين الرجل والمرأة، والليل والنهار، والشمس والقمر.. وهناك أشياء تكون الزوجية فيها بالنسبة لغيرها، تتكامل معها، وتمثل زوجية.
هذه الزوجية نظامها نظام عام شامل، وهذا يعني أن الظاهرة القرآنية لا تخرج عن هذا النظام أيضا إذ القرآن هو الروح للإنسان الحي.
لذلك فلا عجب أن يُرى صبح قد تنفس، بعد ليل قد عسعس \(\فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)\)\ وهذا القسم مقدمة تأتي بظواهر كونية، ولكن قد لا نلتفت إليها، كأنها تدفعنا دفعا لتأملها، واكتشاف النظام، أو الأنظمة التي تحكمها. يجب أن تُعرف لأنها أساس، وهذا شيء سيواجهنا في عدد من السور \(\وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)\)\ هو قادم إن شاء الله عز وجل، أشكال من القسم التي يبتدئ بها القرآن هي مقدمات ترسخ النظام العام الذي يتأسس عليه ما بعده، فينبغي أن يُلْتَفَتَ إليها جيدا.
\(\فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ\)\الذي عليه الجمهور في {الخنس الجوار الكُنّس} أنها النجوم. هناك من قال غير هذا، ولكن الواقع أنه حسب السياق، وخصوصا في ما بعدها \(\وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)...\)\ نجد فعلا أن هذا الذي عليه الجمهور هو الراجح.
والخنس والخُنوس بصفة عامة هو الظهور ثم التواري، كما يحدث للظبية مثلا عندما تحس بخطر الصياد؛ تخْنِس بسرعة وتتوارى عن النظر، ولكن لا تذهب إلى مخْدَعِها الأساسي، الذي يُسمى عند العرب بالكِناس. كَنَسَ الظّبيُ يكْنِسُ: دخل في كِنَاسه أي بيته الذي ينام فيه.
والصورة هنا رائعة فعلا، الصورة هنا يحق لأهل الجمال، ومتذوقي الجمال أن يحسوا بها في هذه الآيات، كأنها تُمهد لجمال القرآن القادم \(\فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)\)\.
وإذا تأملنا في علاقة هذا الأمر بالواقع الكوني، متى تكون النجوم خُنّساً؟ فالنجوم لها أوضاع: ذكرت بالخنس، وذكرت بالجواري، وذكرت بالكنس، طبعا إذا دخل الظبي كناسه لم يعد يُرَى: فكناسه معناه أنه كان موجودا ثم اختفى، ولم يعد يُرى، لكن حين يكون خانسا فإنه سيظهر بسرعة، أو سيأتي وقت يظهر فيه، ولا يكون غائبا، فكذلك الحال في النجوم، فحين تطلع الشمس تكون موجودة، لكنها مختفية، وحين يأتي الليل تظهر بوضوح وتجري، وحين تأتي نهاية الليل تظهر لنا كأنها غابت بالمرة، فهذا وضع أو ظاهرة بهذا الشكل. وظاهرة أخرى كونية، هي ليل يقبل ويصبح ليلا في بدايته، يتمكن من ليليته (مصدر صناعي من الليل أي يصبح ليلا): عسعس الليل أي أقبل وهو ليل حقيقة. عكسه في النهار: \(\وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ\)\ كأن الصبح خرج منه نفس يشعرك بأن النهار قد بدأ بانتشار الضوء، فعبر عنه ب"تنفس الصبح". وهي صورة معاكسة لعَسْعَسَةِ الليل \(\وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)\)\.
فإذن: تعاقُب هذين الزوجين، ووجود النور بعد الظلمة شيء طبيعي، أن تكون مرحلة لم يكن فيها هدى، لم ينزل فيها هدى، مرحلة فترة، عرفتها البشرية لم يكن فيها نور، كانت الرسالات قد انتهت وجاءت فترة، والآن جاء النور من جديد، لا عجب في هذا، هو إشعار بأن هذا الأمر سنة كونية.
وهذه الظاهرة القرآنية المشابهة للظاهرة الكونية قاعدتها الكبيرة قوله تعالى: \(\كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ\)\ [البقرة: 211] ثم صار الأمر بعد ذلك كلما انطمس أمر الدين، وضعف تدين الناس، وضَعُفَ النور في الأرض، أمد الله الأرض بنور جديد من جديد، حتى جاء النور الخاتم الذي لا ينطفئ، هو هذا الذي تنفس به الصبح، \(\فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)\)\.
ثانيا: إنها مَنَزّلة من الله جل جلاله في صورة قول عَبْر ملك رسول \(\إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ\)لك رسول مؤهل تأهيلا خاصا لتأدية الوحي إلى رسل الله تعالى من البشر هو جبريل عليه السلام، ومؤهلاته كما هي مذكورة في السورة كلها تعطيه الأهلية الكاملة لحمل هذه الأمانة من الله جلّ وعلا وأدائها إلى من وُجِّهت إليه؛ إنها خمس صفات:
- الصفة الأولى: أنه كريم: والكرم في كلام العرب جماع الصفات الحسنة، فهو ضد اللؤم، الكرم ليس هو الجود، الجود ضد البخل، والكرم ضد اللؤم، قال المتنبي رحمه الله تعالى:
إذا أنت أكْرمت الكريم مَلَكْته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
اللؤم جماع الأخلاق القبيحة، والكرم جماع الأخلاق الحسنة. ولذلك توصف الملائكة بالكرم كما في آية أخرى \(\كِرَامٍ بَرَرَةٍ\)\ [عبس: 16] إلى غير ذلك، فهو قول رسول كريم معناه أنه يتصف بكل ما يمكن أن يخطر على بالك من الصفات الحميدة.
- الصفة الثانية: أنه ذو قوة: فهو مؤهل؛ لأنه لا يستطيع حمل الأمانة إلا الأقوياء، هذه سنة الله في خلقه؛ لا في الملائكة، ولا في الرسل، ولا في البشر العادي. ما وضعت أمانة، وما وكّل الله أمانة لضعيف. قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".
فسياق الحديث يشير إلى أن أبا ذر طلب أن يُوَلَّى ولاية، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر إنها أمانة، وإنك ضعيف..." معناه ليست له مؤهلات الولاية، وهو فيه ضعف من هذه الناحية، وفيه قوة من جوانب أخرى، لكن في هذا الجانب فيه ضعف، لا يصلح، وليس معنى أن الشخص ضعيف في جهة، لا قوة له في جهة أخرى. الله عز وجل جعل لكل واحد جوانب قوة وجوانب ضعف. إذن فالولاية يولاها الأقوى، ولذلك وصف الله جبريل بأنه {ذي قوة} بمعنى القوة على حمل هذه الرسالة من الله جل جلاله إلى رسول الله من البشر.
- الصفة الثالثة: عند ذي العرش مكين: له مكانة خاصة عالية جدا في الرتبة، يقال مكُن الشخص مكانة صار متمكنا في رتبة عالية عند من مَكُن عنده، فهنا عند ذي العرش: عند رب العزة، عند الله جل جلاله هو مكين، بخلاف بقية الملائكة.
- الصفة الرابعة: مطاع: أيضا في الملأ الأعلى، نافذ أمره عند الملائكة ولذلك فهو مطاع.
- الصفة الخامسة: أمين: أيضا في الحمل وفي الأداء معا.
هذه الصفات كلها ذكرها الله جل جلاله ليبين هذه النقطة.
مازلنا في الظاهرة القرآنية كيف تكونت، هذا القول القرآني، هذا القرآن، هذا الوحي، التفسير الصحيح له ما هو؟ هو أولا داخل النظام العام، ثانيا: أنه منزل من الله جل جلاله عبر ملك رسول مؤهل تأهيلات خاصة لأداء هذه الوظيفة، بمعنى أنه: لا يزيد ولا ينقص عن الله عز وجل، فهو ملك مختص بالوحي لذلك قال ورقة بن نوفل: "هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى" أو كما قال.
ثالثا: أن الرسول من البشر الذي أوحي إليه هذا القول القرآني في غاية الأهلية أيضا للحمل والأداء (بألفاظ المحدثين واصطلاحاتهم).
فالرسول من الملائكة في غاية الأهلية، والرسول من البشر كذلك في غاية الأهلية للحمل والأداء.
كأن الله عز وجل يوثق سند القرآن بتعبير علماء أهل الحديث، فمن البشر أيضا اختار رسولا غاية في الأهلية، ولذلك وصفه بأوصاف منها:
أولها: أنه "صاحبكم". هذا التعبير بصاحبكم مقصود، وله أهمية كبيرة فهو صاحبكم معروفة خصائص القوة والأمانة فيه لديكم حين قال \(\وَمَا صَاحِبُكُم\)\ يعني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمعنى: أنتم تعرفونه جيدا، \(\فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ\)\ [يونس: 16] يعني مدة طويلة: أربعين سنة، وهم يعرفونه جيدا؛ يعرفون خصائصه، يعرفون أمانته، يعرفون صدقه، يعرفون قوته، ويعرفون كل شيء عنه، هو صاحبهم فعلا، هنا لا بأس أن أقول: أعجبتني لفظة عند أحدهم، قال: الصُّحْبة هي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة أو الموافقة، فالصحبة هي الملازمة، في التجمع والانفراد معا، وصاحب الشخص معناه: من كان يلازمه في الأحوال العامة والأحوال الخاصة، ذاك معنى صاحبكم: رأيتموه في أحوال مختلفة وتعرفونه جيدا.
ثانيها: أنه في تمام العقل، وليس بمجنون كما تدّعون \(\وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ\)\ ليس فيه مرض الجنون؛ لأن مسألة الجنون واضحة.
ثالثها: أنه قد أخذ عن جبريل، ورآه رأي العين بالأفق المبين \(\وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ\)\فأخذ عنه، أوحى إليه ما أوحى، ورآه رأي العين.
رابعها: أنه أمين في أداء ما حُمِّل من أمر الغيب، غيرُ "ظنين" -في قراءة-، وغير "ضنين" في قراءة أخرى- ولذلك نجمعهما معا: هو أمين في أداء ما حمل من أمر الغيب، غير متهم في أمانته وأدائه لما حُمِّل، وغير ضنين أي غير بخيل أو طالب لأجر أو ما أشبه، في تبليغ هذا الخير، هذا العلم الذي هو الوحي.
رابعا: أن هذا القول قولٌ كريمٌ يتبرأ شكلا ومضمونا من أن يكون قول شيطان رجيم. حين قال الله عز وجل \(\وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ\)\هذا النفي بهذه الطريقة ركّز فيه على القول لا على مصدره، معناه: أنه هو القولُ نفسُه إذا قرأت هذا القول وتلقيته وتلقيت مضامينه: تلقيت الشكل الذي صدر به وعليه، والصورة الأدبية التي خرج عليها المبنوية والمعنوية، الشكل الذي خرج عليه هذا القرآن ليس كلام شيطان؛ لأن الشيطان يفسد في الأرض، يأمر بالمنكر، والشيطان كلامه كله خبيث. أما هذا الكلام فهو كلام طيب، كلام يُرشد إلى الخير، وفيه كل الخير، وهو كلام حسن.. \(\وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ\)\ [التكوير: 25] كيف يكون كذلك وهو على ما هو عليه؟! لذلك قال \(\فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ\)\؟ كأنه يشير إلى ضرورة نفي أي تفسير آخر لهذا القول ولهذه الظاهرة القرآنية غير ما تقدم؛ لأنه لا يستقيم ولا ينسجم معها، لا يستقيم ولو حاول من حاول، هذه حقيقة، هذه حقيقة صدور القرآن، وإذن فمصدرية القرآن، وتوثيقه، وتفسير ظاهرته، هنا ضبطت في هذه السورة.
الهدى الثالث: بداية الاستقامة في السير، العلم بوظيفة القرآن الكريم أنه ذكر للعالمين،
هذا هو القسم الأخير \(\إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)\)\.
هذا المعنى الذي يوضح وظيفة القرآن. هذه الوظيفة حُدِّدت في عدة آيات وبعدة صور، بعضها يشرح بعضا، وتظهر أيضا في الأسماء التي سمي بها القرآن.
ومن هذه الأسماء التي سمي بها القرآن أنه: "الذكر"، وقد مضى في سورة القلم، \(\وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ\)\ [الحجر: 6].
وسبب هذه التسمية هو أن وظيفة القرآن الأساسية أن يُذَكِّر الإنسان بالحقائق الضخمة في مبتدئه، والحقائق الضخمة في مصيره، والحقائق الضخمة في سيره من مبتدئه إلى مصيره.
هذه الأمور الكبيرة التي هي موضوع التذكير هي: رسم المنهاج، جواب عن الأسئلة الضخمة، تذكيره بحقائق الفطرة، تذكيره بالعهد الأول، تذكيره بالله جلّ جلاله، من أين جاء؟ وإلى أين يسير؟ لأن هذا المجموع بكامله في مسيرتنا الخالدة سيحضر يوما، سيقول قائلون يوما: \(\رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ\)\ [غافر: 10].
هناك استمرار للروح، كانت قبل هذه الحياة، وكانت في هذه الحياة، وستكون بعد هذه الحياة، ثم تُبعثُ بعد ذلك في الحياة الأخرى، موتتان: موتة قبل هذه الحياة، وموتة بعد هذه الحياة، وحياة هي هذه الحياة، وحياة بعد الموتة الثانية \(\أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ\)\لكن هذه حياة قصيرة صغيرة، حياة اختبار، وفرصة للعمل، أما الحياة التي هي الحياة فهي الأخرى، والتي \(\يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى\)\ [النازعات: 35] سيقول \(\يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي\)\ [الفجر: 27] كأن هذه الحياة الدنيا لم تعد تعتبر، فهي ليست بحياة، وهذا منطقي جدا؛ لأن هذه الحياة يعقبها موت، أما الحياة الأخرى فلا يعقبها موت، \(\لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى\)\ [الدخان: 53] التي مضت.
إذن هذه هي التي تستحق أن تسمى حياة.
فهذا التذكير هنا لخص وظيفة القرآن، وهو يُشْعِر بأن هذه الآية، وهذه الآيات، وهذه السّورة من السور المبكّرة، لا تحدد الوظيفة بالتفصيل، ولكن تحددها بإجمال كبير. \(\ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ\)\ في أي شيء؟ في كل شيء، ولكن كيف؟ سيأتي بعد \(\وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً\)\ [الإسراء: 12] هذا أمر سيأتي بعد، لكن المهم في البداية هو السير باستقامة إلى تلك النهاية التي رُسمت في أول السورة لجعل الـمُحْضَر (ما أحضرت) خيرا لا شرا.
ولأن الدخول إلى الجنة التي أزلفت يحتاج إلى معرفةِ حقيقةِ القرآن: \(\إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)\)\ وفق هذا الذكر ليَسِير إلى ربه \(\إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً\)\ [الإنسان: 29] هذا الاتخاذ هو تذكرة بكل شيء، وأولها الحقائق الغليظة التي من بينها التذكير بمنطلق هذا الإنسان، بمبتدأ هذا الإنسان بصفة عامة، ليعرف الإنسان من أين جاء، ولا يكون كالشاعر الحائر أبي ماضي الذي قال:
جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
هذا تمام الضياع، وهذه النقطة مهمة جدا إذا تأملناها، وهي ترتبط بمقدمة السورة.
إن الفلسفات بصفة عامة التي تسحق الإنسان وتجعله عدميا، متشائما، متوتراً،... هي نفسها فلسفات عدمية، لا تفتح أمامه الأفق الحقيقي ليرى الحق في الأفق المبين، لا يرى النهايات السعيدة بهذا الوُضوح الذي يشرحه ويُجلِّيه القرآن، فيرسُمُ الطريق في المعاش، وفي المعاد، الطريق بكامله، في مرحلة هذه الحياة الصغيرة، وفي الحياة البرزخية، وفي ما بعد ذلك في الحياة التي لا نهاية لها. إذا أخذنا على سبيل المثال الفلسفة الوُجودية التي تحصر معنى الإنسان وحياة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، إلى حد أنها تتصور -نظرا لانطلاقها من الإلحاد ونفي وجود الله- أن الإنسان يصنع ماهيته، ليست هناك فكرة سابقة على أساسها رسم الإنسان وخطط الإنسان، وخلق الإنسان وقدر له ما قدر كما نؤمن نحن (يكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) كل شيء رُتِّب "اعملوا فكل ميسَّر لما خُلِق له"، نحن نتصور الحياة منظمة، كل شيء مرتب في هذه الدنيا، وكل شيء مرتب فيما بعد الدنيا، وعلاقة هذه الدنيا بالأخرى أيضا في ترتيب تام وتنسيق تام، هذا الترتيب يفتح أملا كبيرا، لكن الآخر ما الذي يحدث له؟ وجوده ينتهي بالموت، ومعناه هو الذي يرسمه في السير ولا معنى له قبل، هو يحاول رسم معناه، في النهاية نجد حالة ألْبِير كامو وأمثاله في أسطورة سيزيفْ، أن يصْعَد بالصخرة إلى نهاية الجبل ثم تنزل، ثم يعود من جديد ليصعد بها... إنه العبث كما قال الله عز وجل \(\ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ\)\ [ص: 26] يظنون أن الأمر عبث، هذه الدنيا!! ما هذه الدنيا؟! لماذا يعيش؟! فيحدث الضياع فعلا، فيضيعون ويُضيّعون؛ لأنه لا يوجد معنى، لماذا يعيش؟ إلى أين؟ فيقع الضياع، وتحصل العدمية، ويحدث الانتحار، ويحدث ما أشبه ذلك من الظواهر الغريبة.
لكن المؤمن عكس هذا تماما، بسبب هذا الأمر الذي يتعلق بالتصور الصحيح الدقيق للنهاية، بل للنهايات كلها: النهاية الأولى، والنهايات الأخرى التي تأتي بعد، في أهوال يوم القيامة وغيرها، وما تنتهي إليه، فالقرآن الكريم تذكرة بالمبتدأ، وتذكرة بالمنتهى، وتذكرة بالسبيل بين ذلك، بالسبيل إلى الله بصفة عامة، بالمنهاج. كل ذلك في القرآن، وهذا هو الذي جعل الكلام الأول يصاغ: في العبارة "لا يستقيم سير البدايات حتى يستقيم تصور النهايات" ثم جاءت بعدها عبارة: "ولا استقامة لسير الإنسان بغير هدى القرآن".
أولا: ضرورة الذكر والتذكُّر والتذْكير باليوم الآخر: أن نذكر نحن أولاً اليوم الآخر وما فيه، ونتذكر ثانيا، ونُذَكِّر به ثالثا. ضرورة الذكر والتذكر والتذكير باليوم الآخر لمحاربة السَّكْرة والغفلة، وتكثير حالات الصحو واليقظة في بني آدم؛ لأنه مع الغفلة، ومع السكرة، تأتي الخطايا "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"؛ لأن "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم؛ فإذا سَها وغَفل وسوس، وإذا ذَكَر الله خنس"، فإذن الوسوسة لا تكون إلا في حال الغفلة، فكأنا بالغفلة نفتح بابا ونقول للشيطان: تفضل ادخل، فيوسوس، والنفس تستجيب له \(\وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)\)\ [الشمس: 7- 8] تستجيب فيقع ما يقع، من المعصية التي بسببها ينزل الغضب.
بصفة عامة ينبغي الإكثار من فعل الحسنات؛ لأنه إذا كثرت الحسنات نزلت الرحمة، وهنا نأخذ المنطق الدقيق لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". أيعجز أحدنا أن يبتسم في وجه أخيه؟، تلك الابتسامة يا أحبتنا، وهي عزيزة عند عدد عديد ويعِزُّ عليه أن يبتسم في وجه أخيه، يلقاه بوجه جهم، لا!! إذا لقيت أخاك فالْقَه بوجه مبتسم، نسأل الله أن نكون ممن يتصدقون بهذه الصدقة البسيطة، وهي صدقة ابتسامتك في وجه أخيك، كما في الحديث الصحيح: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة"، هذه البسمة لا يمكن احتقارها لأنها حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وبكل حسنة تنزل رحمات، فتصور، وبكل رحمة تمحى سيئات \(\إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ\)\ [هو: 114] فإذن يزداد الخير في الكون كله، وتزداد الرحمة بالبَسْمة، نعم بالبَسْمة!!.
والميزان يوم القيامة قد يثقل بسبب تلك البَسمة، قد نحتاج في الميزان، لكي ننجح ونفوز بالجنة، لأجر تلك البَسمة، فإذن: "لا تحقرن من المعروف شيئا" بمعنى: افعل ما استطعت من الخير بكل سبيل، افعله بعينك، افعله بيدك، افعله بأذنك، افعله بلسانك، افعله برجلك، افعله بكل شيء، بجَيْبِك بأي شيء، افعل الخير كما قال تعالى: \(\يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ\)\ [الحج: 75] افعلوا الخير، افعلوا الخير! هذا مهم جدا.
ولذلك فمحاربة الغفلة سد لِلْبَابِ في وجه الشيطان، وهي طريقة في محاربة الشيطان، هي إغلاق للباب الذي يدخل منه الشيطان، ولذلك قال الله عز وجل: \(\يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا\)\ [الأحزاب: 41] اذكروا الله ذكرا كثيرا، ليس بالصلاة فقط، والتي هي محض ذكْر، بل حتى خارج ذلك \(\فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ\)\ [الجمعة: 10].
والذكر حال سبق أن كان الكلام عنها في سورة المزمل، وأنها ينبغي أن ترتقي، وترتقي.. إلى أن يصل فيها العبد إلى درجة التبتل إلى الله، أي الانقطاع إليه. \(\وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً\)\ [المزمل: 7].
وتكثير حالات الصحو واليقظة مطلوب بقوة؛ لأننا الآن كأننا سكارى، فالناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن غضب الله شديد، نسأل الله السلامة.
ثانيا: ضرورة الاستيقان بأن هذا القرآن من الرحمان، وما هو بقول شيطان ولا جان:
تحرير هذه النقطة، وعدم الارتياب فيها بأي شكل من الأشكال، والاستيقان بحقيقتها؛ لأنها إذا استقرت لا يمكن أن نتعامل مع القرآن على أنه نص من النصوص، نتعامل معه باستقلال تام عن الله جل جلاله، كما تدعي البنيوية، وأنه كلام من الكلام، كبقية الكلام، نستخلص منه الكلام، هذا خطأ جليل في الأفهام. هذا كلام الله جل جلاله، ولا يفهم القولُ إلا في علاقته بقائله، وكل فصل للقول عن قائله، وكل نظر فيه بمعزل عن صاحبه، فيه ضلال مبين بيّن، وهو من العبث المنهجي، إذ لا يعقل أن نعزل القول عن القائل، لابد أن ندخل إلى عالم القرآن، ونستمع إلى القرآن على أننا نُخَاطَب من الرحمان، خطاب من خالقنا لنا، إذا تلقيناه على هذا الأساس فإن حالنا سيصلح وستنالنا الرحمة \(\وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ\)\ [الأعراف: 204] إذا تم هذا بهذا الشكل، فعلا تكون الرحمة من الله وتتنزل في القلب، وتسري في الجسد وفي العروق، ويكون كل خير، وتظهر آثارها في الخارج، أما إذا كان الأمر الآخر، أو وقع هذا الهراء، وحصل هذا الكلام الغريب فسيكون الخسران المبين.
فلذلك هذه النقطة أساسية أيضا "ضرورة الاستيقان بأن القرآن من الرحمان، وما هو بقول شيطان ولا جان".
ثالثا: ضرورة الاستقامة على هدى القرآن لمن شاء الفوز في الدارين: \(\لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ\)\ هذه الأمة، بل البشرية مطلقاً، لا سبيل إلى سعادتها في الدارين إلا بالاستقامة على منهاج القرآن \(\إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ\)\ [الإسراء: 9] على الإطلاق، في الوصول إلى المقاصد الحسنة في الدنيا والآخرة. فسعادة الدارين ليس بالمعنى الخُرافي، بل بمعنى أن السيادة والريادة والقيادة قد كانت لهذه الأمة، وسيرورتها التاريخية شاهدة بحق على هذا، ويشهد لها العالم بذلك، عن طواعية واختيار. كذلك الأمر سيكون يوم يعود الناس إلى هدى القرآن، ستظهر الآثار والبراهين الساطعة الواضحة للعالم كله، ويشهد الجميع أن أهل هذا القرآن هم الأجدر بإمامة العالم.