فماذا كانت نتيجة ذلك التطاول والغرور ، والتكذيب بالبعث والحساب ؟ لقد كانت نتيجته كما قال - تعالى - - بعد ذلك : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } .
والنبذ : الطرح والإهمال للشىء لحقارته وتفاهته .
أى : فأخذنا فرعون وجنوده بالعقاب الأليم أخذا سريعا حاسما فألقينا بهم فى البحر ، كما يلقى بالنواة أوالحصاة التى لا قيمة لها ، ولا اعتداد بها .
{ فانظر } أيها العاقل نظر تدبر واعتبار { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين } ؟ لقد كانت عاقبتهم الإغراق الذى أزهق أرواحهم واستأصل باطلهم .
( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ) .
هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع ، فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله ، والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . .
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين ، ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر ، وفي أقل من نصف سطر !
وقوله : فَأخَذْناهُ وَجُنُودَهُ يقول تعالى ذكره : فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمّ يقول : فألقيناهم جميعهم في البحر ، فغرقناهم فيه ، كما قال أبو الأسود الدّؤَلِيّ :
نَظَرْتُ إلى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُه *** كَنَبْذِكَ نَعْلاً أخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
وذُكر أن ذلك بحر من وراء مصر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة : فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمّ قال : كان اليم بحرا يقال له إساف ، من وراء مصر ، غرّقهم الله فيه .
وقوله : فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبُةُ الظّالِمِينَ يقول تعالى ذكره : فانظر يا محمد بعين قلبك : كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فكفروا بربهم وردّوا على رسوله نصيحته ، ألم نهلكهم فنُوَرّث ديارهم وأموالهم أولياءنا ، ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون وكنوز ، ومَقام كريم ، بعد أن كانوا مستضعفين ، تقتل أبناؤهم ، وتُستحيا نساؤهم ، فإنا كذلك بك وبمن آمن بك وصدّقك فاعلون مخوّلوك وإياهم ديار مَنْ كذّبك ، وردّ عليك ما أتيتهم به من الحقّ وأموالهم ، ومهلكوهم قتلاً بالسيف ، سنة الله في الذين خَلَوا من قبل .
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } كما مر بيانه ، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ، ونظيره قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } فانظر يا محمد . { كيف كان عاقبة الظالمين } وحذر قومك عن مثلها .
{ نبذناهم } معناه طرحناهم ، ومنه نبذ النواة ومنه قول الشاعر :
نظرت إلى عنوانه فنبذته . . . كنبذك نعلاً من نعالك باليا{[9149]}
وقوم فرعون وإن كانوا ساروا إلى البحر ودخلوه باختيارهم فإن ما ضمهم من القدر السابق السائق [ وإغراقهم في البحر ]{[9150]} هو نبذ الله تعالى إياهم فيه ، و { اليم } بحر القلزم في قول أكثر الناس ، وقالت فرقة : كان غرقهم في نيل مصر والأول أشهر .
أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأنه رجوع إلى حكمه وعقابه ، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه ، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده . وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم .
وجعل في « الكشاف » هذا من الكلام الفخم لدلالته على عظمة شأن الله إذ كان قوله { فنبذناهم في اليم } يتضمن استعارة مكنية : شبه هو وجنوده بحصيات أخذهن في كفه فطرحهن في البحر . وإذا حمل الأخذ على حقيقته كان فيه استعارة مكنية أيضاً لأنه يستتبع تشبيهاً بقبضة تؤخذ باليد كقوله تعالى { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } [ الحاقة : 14 ] وقوله { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } [ الزمر : 67 ] . ويجوز أن يجعل جميع ذلك استعارة تمثيلية كما لا يخفى .
وقوله { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } اعتبار بسوء عاقبتهم لأجل ظلمهم أنفسهم بالكفر وظلمهم الرسول بالاستكبار عن سماع دعوته . وهذا موضع العبرة من سوق هذه القصة ليعتبر بها المشركون فيقيسوا حال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بحال دعوة موسى عليه السلام ويقيسوا حالهم بحال فرعون وقومه ، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه من عقاب سيصيبهم لا محالة . وهذا من جملة محل العبرة بهذا الجزء من القصة ابتداء من قوله تعالى { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات } [ القصص : 36 ] ليعتبر الناس بأن شأن أهل الضلالة واحد فإنهم يتلقون دعاة الخير بالإعراض والاستكبار واختلاق المعاذير فكما قال فرعون وقومه { ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ القصص : 36 ] قالت قريش { بل افتراه بل هو شاعر } [ الأنبياء : 5 ] ، وقالوا { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } [ ص : 7 ] أي التي أدركناها .
وكما طمع فرعون أن يبلغ إلى الله استكباراً منه في الأرض سأل المشركون { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله كما ظن أولئك فيوشك أن يصيبهم من الاستئصال ما أصاب أولئك .