قوله تعالى : { ولما سقط في أيديهم } ، أي ندموا على عبادة العجل ، تقول العرب لكل نادم على أمر : قد سقط في يديه .
قوله تعالى : { ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا } يتب علينا ربنا .
قوله تعالى : { ويغفر لنا } يتجاوز عنا .
قوله تعالى : { لنكونن من الخاسرين } قرأ حمزة والكسائي : { ترحمنا وتغفر لنا } بالتاء فيهما ( ربنا ) بنصب الباء ، وكان هذا الندم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم .
وَلَمَّا رجع موسى إلى قومه ، فوجدهم على هذه الحال ، وأخبرهم بضلالهم ندموا و سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي : من الهم والندم على فعلهم ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فتنصلوا ، إلى اللّه وتضرعوا و قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا فيدلنا عليه ، ويرزقنا عبادته ، ويوفقنا لصالح الأعمال ، وَيَغْفِرْ لَنَا ما صدر منا من عبادة العجل لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والآخرة .
ثم بين - سبحانه - ما كان منهم بعد أن رأوا ضلالهم فقال تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } أى وحين اشتد ندمهم على عبادة العجل ، وتبينوا ضلالهم واضحا كأنهم أبصروه بعيونهم قالوا متحسرين { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } أى لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم .
وكان هذا الندم بعد رجوع موسى إليهم من الميقات وقد أعطاه الله التوراة ، بدليل أنه لما نصحهم هارون بترك عبادة العجل قالوا { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } وبدليل أن موسى - عليه السلام - لما رجع أنكر عليهم ما هم عليه وهذا دليل على أنهم كانوا مستمرين على عبادته إلى أن رجع موسى إليهم وبصرهم بما هم عليه من ضلال مبين .
ولذلك قال ابن جرير عند تفسيره لقوله تعالى { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } ( ولما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف - جل ثناؤه - صفته ، عند رجوع موسى إليهم ، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم ، وكذلك تقوم العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف ، وعاجز عن شىء : قد سقط في يديه وأسقط ، لغتان فصيحتان ، وأصله من الاستئسار ، وذلك بأن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه ، فيرمى به من بين يديه إلى الأرض ليأسره ، فالمرمى به مسقوط في يدى الساقط به ، فقيل لكل عاجز عن شىء ومتندم على ما فاته : سقط في يديه وأسقط ) .
وعبر - سبحانه - عن شدة ندمهم بقوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطاً فيها ، لأن فاه قد وقع فيها . وكأن أصل الكلام ولما سقطت أفواههم في أيديهم ، أى ندموا أشد الندم .
قال صاحب تاج العروس : وفى ( العباب ) هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن ولا عرفته العرب ( والأصل فيه نزول الشىء من أعلى إلى أسفل ) ، وقوعه على الأرض ، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام ( سقط ) لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه ، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب .
وأثره يظهر في اليد ، كقوله تعالى : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } ولأن اليد هى الجارحة العظمى ، فربما يسند إليه ما لم تباشره كقوله تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } اه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا سُقِطَ فَيَ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنّهُمْ قَدْ ضَلّواْ قَالُواْ لَئِن لّمْ يَرْحَمْنَا رَبّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : ولَمّا سُقِطَ فِي أيْدِيهمْ : ولما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف جلّ ثناؤه صفته عند رجوع موسى إليهم ، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم . وكذلك تقول العرب لكلّ نادم على أمر فات منه أو سلف وعاجز عن شيء : «قد سقط في يديه » و«أسقط » لغتان فصيحتان ، وأصله من الاستئسار ، وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه ، فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتفه ، فالمرميّ به مسقوط في يدي الساقط به ، فقيل لكلّ عاجز عن شيء ومصارع لعجزه متندم على ما فاته : سقط في يديه وأسقط . وعنى بقوله : وَرَأَوْا أنّهُمْ قَدْ ضَلّوا ورأوا أنهم قد جاروا عن قصد السبيل وذهبوا عن دين الله ، وكفروا بربهم ، قالوا تائبين إلى الله منيبين إليه من كفرهم به : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَنكُونَنّ مِنَ الخاسِرِينَ .
ثم اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبّنا بالرفع على وجه الخبر . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : «لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنا رَبّنا » بالنصب بتأويل لئن لم ترحمنا يا ربنا ، على وجه الخطاب منهم لربهم . واعتلّ قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين : «قالوا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنا رَبّنا وَتَغْفِرْ لَنا » ، وذلك دليل على الخطاب .
والذي هو أولى بالصواب من القراءة في ذلك القراءة على وجه الخبر بالياء في «يرحمنا » وبالرفع في قوله «ربّنا » ، لأنه لم يتقدّم ذلك ما يوجب أن يكون موجها إلى الخطاب . والقراءة التي حكيت على ما ذكرنا من قراءتها : «قالوا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنا رَبّنا » لا نعرف صحتها من الوجه الذي يجب التسليم إليه . ومعنى قوله : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبّنا وَيَغْفِرْ لَنا : لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته ، ويتغمد بها ذنوبنا ، لنكوننّ من الهالكين الذين حبطت أعمالهم .
كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله : { ولما سُقط في أيديهم } الآية ، عن قوله : { ولما رَجع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفاً } [ الأعراف : 150 ] لأنهم ما سُقط في أيديهم إلاّ بعد أن رجع موسى ورأوا فَرْط غضبه وسمعوا توبيخه أخاه وإيّاهم ، وإنما خولف مقتضى الترتيب تعجيلاً بذكر ما كان لاتخاذهم العجل من عاقبة الندامة وتبين الضلالة ، موعظة للسامعين لكيلا يعجلوا في التحول عن سنتهم ، حتى يتبينوا عواقب ما هم متحولون إليه .
و { سُقط في أيديهم } مبني للمجهول ، كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذا أُنظمت على إيجاز بديع وكناية واستعارة ، فإن اليد تستعار للقوة والنصرة إذ بها يُضرب بالسيففِ والرمح ، ولذلك حين يَدْعون على أنفسهم بالسوء يقولون : « شَلّتْ من يديّ الأنامل » ، وهي آلةُ القدرة قال تعالى : { ذَا الأيد } [ ص : 17 ] ، ويقال : ما لي بذلك يدٌ ، أوْ ما لي بذلك يَدانِ أي لا أستطيعه ، والمرء إذا حصل له شلل في عضد ولم يستطع تحريكه يحسن أن يقال : سَقط في يده ساقط ، أي نزل به نازل .
ولما كان ذكر فاعل السقوط المجهول لا يزيد على كونه مشتقاً من فعله ، ساغ أن يُبنى فعله للمجهول فمعنى « سُقط في يده » سَقط في يده ساقِط فأبطل حركة يده ، إذ المقصود أن حركة يده تعطلت بسبب غير معلوم ، إلاّ بأنه شيء دخل في يده فصيّرها عاجزة عن العمل وذلك كناية عن كونه قد فجأه ما أوجب حيرته في أمره ، كما يقال : فُتَ في ساعده .
وقد استعمل في الآية في معنى الندم وتبيُّن الخطأ لهم ، فهو تمثيل لحالهم بحال من سُقط في يده حين العمل . فالمعنى أنهم تبين لهم خطأهم وسوء معاملتهم ربهم ونبيهم ، فالندامة هي معنى التركيب كله ، وأما الكناية فهي في بعض أجزاء المركب وهو سقط في اليد ، قال ابن عطية « وحُدثت عن أبي مروان بن سراج » أنه كان يقول قول العرب : سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال الزجاح هو نظم لم يُسمع قبل القرآن ، ولم تعرفه العرب .
قلت وهو القول الفصل ، فإني لم أره في شيء من كلامهم قبل القرآن ، فقول ابن سراج : قول العرب سقط في يده ، لعله يريد العرب الذين بعدَ القرآن .
والمعنى لما رجع موسى إليهم وهددهم وأحرق العجل كما ذكر في سورة طه ، وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم : { لن نبرح عليه عاكفين } [ طه : 91 ] ، إلاّ بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم ، فطيّ ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث أن انكشف لهم ، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم ، وكأنه قيل : فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا .
وقولهم : { لئن لم يرْحمْنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } توبة وإنابة ، وقد علموا أنهم أخطأوا خطيئة عظيمة ، ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطَأتْه اللامُ . وقدموا الرحمة على المغفرة ؛ لأنها سببها .
ومجيء خبر كان مقترناً بحرف ( مِن ) التبعيضية ؛ لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى : { قد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين } [ الأنعام : 55 ] وقرأه الجمهور { يرحمنا ربنا ويغفر } بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربُّنا ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربّنا على النداء ، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم .