اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمَّا سُقِطَ فِيٓ أَيۡدِيهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمۡ يَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَيَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (149)

قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } الجارُّ قائم مقام الفاعل .

وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم ، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال : " سقط " تَتضمَّن مَفعُولاً ، وهو ههنا المصدر ، الذي هو الإسقاطُ كقولك : " ذُهِبَ بزيد " .

قال : وصوابه : وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط ؛ لأنَّ " سقط " ليس مصدرُهُ الإسقاط ، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر ، لا المصدر ، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم : " سُقِط في يده " ؛ كقوله امرئ القيس : [ الطويل ]

دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ *** ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ{[16826]}

في كون الفعل مُسْنداً للجار ، كأنه قيل : صَاحَ المنتهبُ في حجراته ، وكذلك المراد سُقِط في يده ، أي : سقط النَّدمُ في يده .

فقوله : أي سقط النَّدم في يده ، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ ، لا ضمير المصدرِ .

ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال : سقط في يده وأسقط أيضاً ، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال : سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ . وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير . وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللَّغَةِ في أصلها .

فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي : " قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ " . وقال الواحِدي : قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ " سُقِطَ في يدهِ " نَدم ، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدَّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال : قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } بمعنى نَدمُوا ، نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن ، ولمْ تعرفهُ العرب ، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم ، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال ، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ .

فقال أبو نواس : [ الرجز ]

ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي{[16827]} *** . . .

وأبُو نواسٍ هو العالمُ النَّحْرِيرُ ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ ، لأنَّ " فُعِلْتُ " لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ ، و " سقط " لازمٌ ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ : " سُقطت " كما لا يُقال : رُغبتُ وغُضِب ، إنَّما يُقَال : رُغِبَ فيَّ ، وغُضِب عَلَيَّ ، وذكر أبُو حاتمٍ : " سُقِط فلان في يده " بمعنى ندم . وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس ، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } و " سُقِطَ القومُ في أيديهم " .

وقال أبُو عُبيدة : " يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه : سُقِطَ في يده " .

وقال الواحِدِيُ : " وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد : " قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ " يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرى بالعينِ ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها .

فاللائمةُ ترجع عليها ، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى ، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ ، كقوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد " .

الوجه الثاني : أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب ، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد ؛ لأنَّ النَّادِمَ بَعَضُّ يدَهُ ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم ، وكقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 37 ] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُور معنى في القلب يسْتَشْعره الإنسانُ ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه .

وقال الزمخشريُّ : " ولمَّا سُقِطَ في أيديهمْ " أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم ؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً ، فتصير يده مَسْقُوطاً فيها ، لأنَّ فاه قد وقع فيها .

وقيل : مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِئَ رَأسَهُ ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه ، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها . ومعنى " في " " على " ، فمعنى " في أيديهم " كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .

وقيل : هو مَأخُوذٌ من السَّقاط ، وهو كثرةُ الخَطَأ ، والخَاطِئُ يَنْدَمُ على فعلهِ .

قال ابنُ أبي كاهل : [ الرمل ]

كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا *** لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ{[16828]}

وقيل : هو مأخوذٌ من السَّقيط ، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج .

يقال منه : سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال : ثلجت ، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى . ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ . واعْلَمْ أنَّ " سُقِطَ في يده " عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف ك " نِعْمَ وبِئْسَ " .

وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع{[16829]} سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مَضْمَرٌ ، أي : سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ .

وقال الزمخشريُّ : " سَقَطَ العَضُّ " .

وقال ابنُ عطيّة : " سَقَطَ الخسران ، والخيبة " . وكل هذه أمثلةٌ .

وقرأ ابنُ أبي عبلة{[16830]} : أسْقِط رباعياً مبنياً للمفعول ، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ .

فصل

قوله : ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة ، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير ، كما زعم بعضهم .

قال القاضِي{[16831]} : يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً ؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ .

ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز .

قوله : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً ، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } .

قرأ الأخوان{[16832]} " تَرْحَمْنَا " و " تَغْفِر " بالخطاب ، " رَبَّنَا " بالنَّصْب ، وهي قراءةُ الشعبي وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش ، وأيُّوب ، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما ، " رَبُّنَا " رفعاً ، وهي قراءةُ الحسنِ ، ومُجاهدٍ ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ . فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى ، وناسَبهُ الخطاب ، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جميعهم على التَّعَاقُبِ ، أو هذا من طائفةٍ ، وهذا من طائفةٍ ، فمن غلب عليه الخوفُ ، وقوي على المُواجهةِ ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب ؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ .

قال المُفَسِّرُونَ : وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم .


[16826]:تقدم.
[16827]:ينظر: حاشية الشهاب 4/220، مجمع الأمثال 2/102 والدر المصون 3/345.
[16828]:ينظر: شرح المفضليات 2/737، الخزانة 6/125، الصاحبي 243، الدر المصون 3/346.
[16829]:ينظر: الكشاف 2/160، والبحر المحيط 4/392، والدر المصون 3/346.
[16830]:ينظر: المحرر الوجيز 2/455، والبحر المحيط 4/392، والدر المصون 3/346.
[16831]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 15/9.
[16832]:ينظر: السبعة 294، والحجة للقراء السبعة 4/88، وإعراب القراءات 1/208، وحجة القراءات 296 -297 وإتحاف 2/63، والمحرر الوجيز 2/456، والبحر المحيط 4/392.