قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } الجارُّ قائم مقام الفاعل .
وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم ، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال : " سقط " تَتضمَّن مَفعُولاً ، وهو ههنا المصدر ، الذي هو الإسقاطُ كقولك : " ذُهِبَ بزيد " .
قال : وصوابه : وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط ؛ لأنَّ " سقط " ليس مصدرُهُ الإسقاط ، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر ، لا المصدر ، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم : " سُقِط في يده " ؛ كقوله امرئ القيس : [ الطويل ]
دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ *** ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ{[16826]}
في كون الفعل مُسْنداً للجار ، كأنه قيل : صَاحَ المنتهبُ في حجراته ، وكذلك المراد سُقِط في يده ، أي : سقط النَّدمُ في يده .
فقوله : أي سقط النَّدم في يده ، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ ، لا ضمير المصدرِ .
ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال : سقط في يده وأسقط أيضاً ، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال : سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ . وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير . وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللَّغَةِ في أصلها .
فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي : " قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ " . وقال الواحِدي : قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ " سُقِطَ في يدهِ " نَدم ، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدَّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال : قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } بمعنى نَدمُوا ، نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن ، ولمْ تعرفهُ العرب ، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم ، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال ، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ .
ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي{[16827]} *** . . .
وأبُو نواسٍ هو العالمُ النَّحْرِيرُ ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ ، لأنَّ " فُعِلْتُ " لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ ، و " سقط " لازمٌ ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ : " سُقطت " كما لا يُقال : رُغبتُ وغُضِب ، إنَّما يُقَال : رُغِبَ فيَّ ، وغُضِب عَلَيَّ ، وذكر أبُو حاتمٍ : " سُقِط فلان في يده " بمعنى ندم . وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس ، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } و " سُقِطَ القومُ في أيديهم " .
وقال أبُو عُبيدة : " يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه : سُقِطَ في يده " .
وقال الواحِدِيُ : " وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد : " قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ " يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرى بالعينِ ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها .
فاللائمةُ ترجع عليها ، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى ، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ ، كقوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد " .
الوجه الثاني : أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب ، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد ؛ لأنَّ النَّادِمَ بَعَضُّ يدَهُ ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم ، وكقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 37 ] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُور معنى في القلب يسْتَشْعره الإنسانُ ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه .
وقال الزمخشريُّ : " ولمَّا سُقِطَ في أيديهمْ " أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم ؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً ، فتصير يده مَسْقُوطاً فيها ، لأنَّ فاه قد وقع فيها .
وقيل : مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِئَ رَأسَهُ ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه ، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها . ومعنى " في " " على " ، فمعنى " في أيديهم " كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
وقيل : هو مَأخُوذٌ من السَّقاط ، وهو كثرةُ الخَطَأ ، والخَاطِئُ يَنْدَمُ على فعلهِ .
كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا *** لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ{[16828]}
وقيل : هو مأخوذٌ من السَّقيط ، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج .
يقال منه : سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال : ثلجت ، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى . ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ . واعْلَمْ أنَّ " سُقِطَ في يده " عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف ك " نِعْمَ وبِئْسَ " .
وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع{[16829]} سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مَضْمَرٌ ، أي : سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ .
وقال الزمخشريُّ : " سَقَطَ العَضُّ " .
وقال ابنُ عطيّة : " سَقَطَ الخسران ، والخيبة " . وكل هذه أمثلةٌ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة{[16830]} : أسْقِط رباعياً مبنياً للمفعول ، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ .
قوله : ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة ، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير ، كما زعم بعضهم .
قال القاضِي{[16831]} : يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً ؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ .
ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز .
قوله : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً ، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } .
قرأ الأخوان{[16832]} " تَرْحَمْنَا " و " تَغْفِر " بالخطاب ، " رَبَّنَا " بالنَّصْب ، وهي قراءةُ الشعبي وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش ، وأيُّوب ، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما ، " رَبُّنَا " رفعاً ، وهي قراءةُ الحسنِ ، ومُجاهدٍ ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ . فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى ، وناسَبهُ الخطاب ، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جميعهم على التَّعَاقُبِ ، أو هذا من طائفةٍ ، وهذا من طائفةٍ ، فمن غلب عليه الخوفُ ، وقوي على المُواجهةِ ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب ؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ .
قال المُفَسِّرُونَ : وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.