{ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ } أن يقينا عذاب السموم ، ويوصلنا إلى النعيم ، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي : لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات{[880]} وندعوه في سائر الأوقات ، { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } فمن بره بنا ورحمته إيانا ، أنالنا رضاه والجنة ، ووقانا سخطه والنار .
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ . . } أى : إنا كنا من قبل فى الدنيا ندعوه أن يجنبنا هذا العذاب كما كنا - أيضا - نخلص له العبادة والطاعة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ البر الرحيم } أى : هو المحسن على عباده ، الرحيم بهم .
فالبر - بفتح الباء - مشتق من البِرِّ - بكسرها - ، بمعنى المحسن ، يقال : بر فلان فى يمينه ، إذا صدق فيها ، وأحسن أداءها .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد بشرت المتقين ببشارات متعددة ، وذكرت نعما متعددة أنعم بها - سبحانه - عليهم .
وقوله : إنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ يقول : إنا كنا في الدنيا من قبل يومنا هذا ندعوه : نعبده مخلصين له الدين ، لا نُشرك به شيئا إنّهُ هُوَ البَرّ يعني : اللطيف بعباده . كما :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّه هُوَ البَرّ يقول : اللطيف .
وقوله : الرّحِيمُ يقول : الرحيم بخلقه أن يعذّبهم بعد توبتهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنّهُ هُوَ البَرّ فقرأته عامة قرّاء المدينة «أنّهُ » بفتح الألف ، بمعنى : إنا كنا من قبل ندعوه لأنه هو البرّ ، أو بأنه هو البرّ . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بالكسر على الابتداء .
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
و : { ندعوه } يحتمل أن يريد نعبده ، ويحسن هذا على قراءة من قرأ : «أنه » بفتح الألف . وهي قراءة نافع . بخلاف والكسائي وأبي جعفر والحسن وأبي نوفل أي من أجل أنه . وقرأ باقي السبعة والأعرج وجماعة «أنه » على القطع والاستئناف ، ويحسن مع هذه القراءة أن يكون { ندعوه } بمعنى نعبده . أو بمعنى الدعاء نفسه ، ومن رأى : { ندعوه } بمعنى الدعاء نفسه فيحتمل أن يجعل قوله : «أنه » بالفتح هو نفس الدعاء الذي كان في الدنيا . و : { البر } هو الذي يبر ويحسن{[10648]} ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
جاءت من البيض زعر لا لباس لها . . . إلا الدهاس وأم برة وأب{[10649]}
وجملة { إنا كنا من قبل ندعوه } تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم ، أي كنا من قبل اليوم ندعوه ، أي في الدنيا .
وحذف متعلق { ندعوه } للتعميم ، أي كنا نبتهل إليه في أمورنا ، وسبب العموم داخل ابتداء ، وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة .
ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلاً على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإِجابة ، كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث » فذكر « وولد صالح يدعو له بخير » . وقوله : { إنه هو البر الرحيم } قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة ( أنه ) على تقدير حرف الجر محذوفاً حذفاً مطّرداً مع ( أَنَّ ) وهو هنا اللام تعليلاً ل { ندعوه } ، وقرأه الجمهور بكسر همزة ( إن ) وموقع جملتها التعليل .
والرحيم : الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة .
وضمير الفصل لإِفادة الحصر وهو لقصر صفتي { البر } و { الرحيم } على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق ، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة ، وغير الله برّ في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا كنا من قبل} في الدنيا {ندعوه} ندعو الرب {إنه هو البر} الصادق في قوله: {الرحيم} بالمؤمنين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ "يقول: إنا كنا في الدنيا من قبل يومنا هذا "ندعوه": نعبده مخلصين له الدين، لا نُشرك به شيئا "إنّهُ هُوَ البَرّ" يعني: اللطيف بعباده... وقوله: "الرّحِيمُ" يقول: الرحيم بخلقه أن يعذّبهم بعد توبتهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "إنّهُ هُوَ البَرّ" فقرأته عامة قرّاء المدينة «أنّهُ» بفتح الألف، بمعنى: إنا كنا من قبل ندعوه لأنه هو البرّ، أو بأنه هو البرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بالكسر على الابتداء.
والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فيه ثلاثة تأويلات:... الثالث: أنه فاعل البر المعروف به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن قَبْلُ} من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه، يعنون في الدنيا {نَدْعُوهُ} نعبده ونسأله الوقاية {إِنَّهُ هُوَ البر} المحسن {الرحيم} العظيم الرحمة الذي إذا عُبِد أثاب وإذا سئل أجاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنا كنا} أي بما طبعنا عليه وهيئنا له... {من قبل} أي في الدنيا {ندعوه} أي نسأله ونعبده بالفعل...
" إنه هو "أي وحده {البر} الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة...
{الرحيم} المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته، ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الأوقات
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {إنا كنا من قبل ندعوه} تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم، أي كنا من قبل اليوم ندعوه...أي كنا نبتهل إليه في أمورنا... والبَر: المُحسن في رفق. والرحيم: الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة. وضمير الفصل لإِفادة الحصر وهو لقصر صفتي {البر} و {الرحيم} على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة، فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة، وغير الله برّ في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئاً...