{ 8 - 9 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
المجادلة المتقدمة للمقلد ، وهذه المجادلة للشيطان المريد ، الداعي إلى البدع ، فأخبر أنه { يُجَادِلُ فِي اللَّهِ } أي : يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } صحيح { وَلَا هُدًى } أي : غير متبع في جداله هذا من يهديه ، لا عقل مرشد ، ولا متبوع مهتد ، { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي : واضح بين ، أي : فلا له حجة عقلية ولا نقلية .
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك نموذجين لصنفين من الناس ، أحدهما : متكبر مغرور ، والآخر مذبذب لا ثبات له فى عقيدة فقال - تعالى - : { ومِنَ الناس . . }
قال ابن كثير - رحمه الله - : " لما ذكر - تعالى - حال الضلال الجهال المقلدين لغيرهم فى الآية الثالثة من هذه السورة وهى قوله - سبحانه - : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } ذكر فى هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع ، فقال : { ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أى : بلا عقل صحيح . ولا نقل صحيح صريح بل بمجرد الرأى والهوى " .
ولعل مما يؤيد ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الثالثة من هذه السورة فى شأن المقلدين لغيرهم ، أنه - سبحانه - قال فيها فى شأنهم : { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ }
أما فى هذه الآية فقد قال فى شأن هذا النوع من الناس : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله . . . }
{ ومِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : ومن الناس من يخاصم في توحيد الله وإفراده بالألوهة بغير علم منه بما يخاصم به . وَلاَ هُدًى يقول : وبغير بيان معه لما يقول ولا بُرْهان . وَلا كِتابٍ مَنِيرٍ يقول : وبغير كتاب من الله أتاه لصحة ما يقول . منير يقول بنير عن حجته ، وإنما يقول ما يقول من الجهل ظنّا منه وحسبانا . وذكر أن عُنِي بهذه الاَية والتي بعدها النضر بن الحارث من بني عبد الدار .
وقوله تعالى : { ومن الناس } الآية ، الإشارة بقوله { ومن الناس } إلى القوم المتقدم ذكرهم ، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان { ومن الناس } مع ذلك { من يجادل } فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف جملة الكلام على ما قبلها ، والآية على معنى الإخبار وهي ها هنا مكررة للتوبيخ .
عطف على جملة { ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } [ الحج : 5 ] كما عطفت جملة { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } على جملة { ياأيها الناس اتقوا ربكم } [ الحج : 1 ] . والمعنى : إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة ، فالناسُ بعد ذلك فريقان : فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب ، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أيّمة الشرك وزعماء الباطل .
وجملة { لا ريب فيها } [ الحج : 7 ] معترضة بين المتعاطفات ، أي ليس الشأن أن يُرتاب فيها ، فلذلك نفي جنس الريب فيها ، أي فالريب .
المعنيُّ بهذه الآية هو المعنيُّ بقوله فيما مضى { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } [ الحج : 3 ] ، فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة ، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث .
ودافِعُهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدمُ علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين .
ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث علم علمهم ما يجادلون فيه ، وانتفاء الهُدى ، وانتفاء تلقي شريعة من قبل ، والتكبر عن الاعتراف بالحجة ، ومحبةُ إضلال الناس عن سبيل الله . فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة . ومن أساطين هذا الفريق من عدّوا في تفسير الآية الأولى مثلُ : النضْر بن الحارث ، وأبي جهل ، وأُبيّ بن خلف .
وقيل : المراد من هذه الآية بمن يجادل في الله : النضر بن الحارث . كُرر الحديث عنه تبييناً لحالتي جداله ، وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل ، كما قيل : إن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل . وروي ذلك عن ابن عباس . وقيل : هو الأخنَس بن شَريق . وتقدم معنى قوله { بغير علم } في نظير هذه الآية . وقيل المراد ب { من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } [ الحج : 3 ] المقلدون بكسر اللام من المشركين الذين يتّبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر ، والمراد ب { من يجادل في الله بغير علم ولا هدى } المقلّدون بفتح اللام أئمة الكفر .
والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله ، أي ولا هُدى هو مَهدِي به . وتلك مجادلة المقلّد إذا كان مقلداً هادياً للحق مثل أتباع الرسل ، فهذا دون مرتبَة من يجادل في الله بعلم ، ولذلك لم يستغن بذكر السابِق عن ذكر هذا .
والكتاب المُنير : كُتب الشرائع مثل : التوراة والإنجيل ، وهذا كما يجادلُ أهلُ الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير .
والمنير : المبين للحق . شبه بالمصباح المضيء في الليل .
ويجيء في وصف { كتاب } بصفة { مُنير } تعريض بالنضر بن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وبين كتاب أخبار رُستم ، وكتاب أخبار أسفنديار المظلمة الباطلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ومن الناس {من يجادل في الله بغير علم} يعني: يخاصم في الله... {ولا هدى ولا كتاب منير}... {ولا هدى} ولا بيان معه من الله، عز وجل، بما يقول: ولا كتاب من الله تعالى {منير} يعني: مضيئا فيه حجة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيد الله وإفراده بالألوهة بغير علم منه بما يخاصم به. "وَلاَ هُدًى "يقول: وبغير بيان معه لما يقول ولا بُرْهان. "وَلا كِتابٍ منِيرٍ" يقول: وبغير كتاب من الله أتاه لصحة ما يقول. "منير" يقول ينير عن حجته، وإنما يقول ما يقول من الجهل ظنّا منه وحسبانا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [يحتمل أن يكون قوله: {بغير علم} حسي {ولا هدى} أي لا بيان دليلي من جهة الفعل {ولا كتاب منير} أي ولا وحي منير ما يجادل فيه ويخاصم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وهذا يدل أيضا على أن الجدال بالعلم صواب، وبغير العلم خطأ، لأن الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحق، وبغير العلم يدعو إلى الاعتقاد بالباطل، ولذلك قال تعالى "وجادلهم بالتي هى أحسن"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
دليل الخطاب يقتضي جواز المجادلة في الله إذا كان صاحب المجادلة على علم بالدليل والحجة ليستطيع المناضلة عن دينه، قال سبحانه لنبيِّه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ومَنْ لم يُحْسِنْ مذهبَ الخَصْمِ وما يتعلق به من الشُبَهِ لم يمكنه الانفصال عن شُبْهَتهِ، وإذا لم تكن له قوة الانفصال فلا يُسْتَحَبُّ له أن يجادل الأقوياء منهم، وهذا يدل على وجوب تعلُّم علم الأصول.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والمراد بالعلم: العلم الضروري. وبالهدى: الاستدلال والنظر؛ لأنه يهدي إلى المعرفة. وبالكتاب المنير: الوحي، أي يجادل بظن وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الإشارة بقوله {ومن الناس} إلى القوم المتقدم ذكرهم...
والآية على معنى الإخبار وهي ها هنا مكررة للتوبيخ.
المسألة الأولى: اختلفوا في أن المراد بقوله: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} من هم؟ على وجوه: أحدها: قال أبو مسلم الآية الأولى وهي قوله: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} ويتبع كل شيطان مريد واردة في الأتباع المقلدين وهذه الآية واردة في المتبوعين المقلدين، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعا والآخر متبوعا وبين ذلك قوله: {ولا هدى ولا كتاب منير} فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد، وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة، فإن قيل: كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلا؟ قلنا قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد... وثالثها: أن هذه الآية نزلت أيضا في النضر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وفائدة التكرير المبالغة في الذم وأيضا ذكر في الآية الأولى اتباعه للشيطان تقليدا بغير حجة، وفي الثانية مجادلته في الدين وإضلاله غيره بغير حجة والوجه الأول أقرب لما تقدم.
المسألة الثانية: الآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن على ما مر تقريره.
المسألة الثالثة: المراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي، والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية وهو كقوله: {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم} وقوله: {ائتوني بكتاب من قبل هذا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ومن {الناس} وهم ممن اشتد تكاثف طبعه {من يجادل} أي بغاية جهده {في الله} أي في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه {بغير علم} أتاه عن الله على لسان أحد من أصفيائه أعم من أن يكون كتاباً أو غيره {ولا هدى} أرشده إليه من عقله أعم من كونه بضرورة أو استدلال {ولا كتاب منير} صح لديه أنه من عند الله، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل {ثاني عطفه} أي رخي البال معرضاً متكبراً متمائلاً لاوياً عنقه لذلك كما قال تعالى {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً} [لقمان: 7] والعطف في الأصل الجانب وموضع الميل.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ومعنى اللفظ: ومن الناس فريق يجادل في الله، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله، أو صفاته أو شرائعه الواضحة قيل: والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى، أعني قوله: {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مَرِيدٍ} [الحج: 3] وبذلك قال كثير من المفسرين. والتكرير للمبالغة في الذمّ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريبا مستنكرا. فكيف إذا كان جدالا بغير علم. لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة، فالناسُ بعد ذلك فريقان: فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم، وهؤلاء هم أيّمة الشرك وزعماء الباطل. فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث. ودافِعُهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدمُ علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المجادلة في الله تعالى هي المجادلة في ذاته ووصفه وقدرته وعلمه ووحدانيته، وكل مجادلة حول شركاء له مجادلة في ذات الله، وقوله تعالى: {بغير علم}، أي بغير علم يثبت بالضرورة، منكرا كل أمر تهدي إليه الفطرة، ومتجاهلا الحقائق الثابتة بأن يتجاهل أن الأوثان لا تضر ولا تنفع، ومنكر البديهيات... ومعنى ذلك أنهم حائرون بائرون، لا يأخذون بعلم ضروري، ولا يعلم يأتي بالنظر والبرهان، ولا بمنقول من كتاب منزل منير، ويهدي إلى سواء السبيل...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ووصف كتاب الله صنفا ثانيا من المجادلين المتحذلقين، المعرضين عن الحق لمجرد الكبر والعناد، الذين يدعون على الضلال والفساد،... فهذا الصنف من المجادلين يجادل في الحق دون مستند ولا دليل، وغايته الوحيدة هي التدجيل والتضليل...
فهؤلاء أهل سفسطة وجدل عقيم لا فائدة منه، وعلى العاقل حين يصادف هذا النوع من الجدال أن لا يجاريه في سفسطته، لأنه لن يصل معه إلى مفيد، إنما عليه أن ينقله إلى مجال لا يحتمل السفسطة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الضالّ المضلّ: وهذا نموذج آخر للذين يتحركون في الجدال من مواقع الجهل والضياع ويُعرضون عن كل دعوةٍ للعلم والتأمّل والحوار المنفتح على الفكر... هؤلاء الذين لا يكتفون بضلالهم الذاتي الذي يتخبطون فيه، بل يعملون على جعل الحياة كلها من حولهم ضلالاً وابتعاداً عن الحق المنطلق من وحي الله...
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} دون مخزون من الأفكار والتأمّلات الذاتيةٍ التي ينتجها العقل المجرّد أو التجربة الشخصية، {وَلاَ هُدًى} يتعلمه مما أنزله الله من وحي على رسله، {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} مما كتبه أهل الحق من تعاليم الله عقيدةً وشريعة.