القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم في الدنيا في الاَخرة هم الأخسرون ، الذين قد باعوا منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار وذلك هو الخسران المبين . وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم ، جَرَمْتُ : كسبت الذنب وأجرمته ، أن العرب كثر استعمالها إياه في مواضع الأيمان ، وفي مواضع «لا بدّ » كقولهم : لا جرم أنك ذاهب ، بمعنى : لا بد ، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق فقالوا : لا جرم ليقومنّ ، بمعنى : حقّا ليقومنّ ، فمعنى الكلام : لا منع عن أنهم ، ولا صدّ عن أنهم .
و { لا جرم } لفظة مركبة من : { لا } ، ومن : { جرم } بنيتا . ومعنى { لا جرم } : حق . هذا مذهب سيبويه والخليل . وقال بعض النحويين : معناها : لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل . وقال الزجاج : { لا } رد عليهم ، ولما تقدم من كل ما قبلها ، و { جرم } معناه : كسب ، أي كسب فعلهم { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } . فموضع «أن » على مذهب سيبويه رفع : وموضعها على مذهب الزجاج - نصب . وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع .
قال القاضي أبو محمد : فكأن { جرم } على هذا من معنى القطع ، تقول : جرمت أي قطعت : وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
جريمتنا ناهض في رأس نيق*** ترى لعظام ما جمعت صليبا{[6297]}
ولقد طعنت أبا أميمة طعنة*** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[6298]}
فيحتمل الوجهين : ويختلف معنى البيت .
وفي { لا جرم } لغات : يقول بعض العرب : لا ذا جرم ، وبعضهم : لا أن ذا جرم ، وبعضهم : لا عن ذا جرم ، وبعضهم : لا جر ، حذفوا الميم لكثرة استعماله .
جملة { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله : { أولئك يعرضون على ربهم } [ هود : 18 ] لأنّ ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة .
و ( لا جرم ) كلمة جزْم ويقين جرت مجرى المثل ، وأحسب أن ( جرم ) مشتقّ مما تنوسي ، وقد اختلف أيمّة العربية في تركيبها ، وأظهر أقوالهم أن تكون ( لا ) من أول الجملة و ( جرم ) اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بدّ أي لا بدّ . ثم يجيء بعدها أنّ واسمها وخبرها فتكون ( أنّ ) معمولة لحرف جرّ محذوف . والتقدير : لا جرم من أن الأمر كذا . ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو : لا جرم لأفعلن . قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر .
وعبر عمّا لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح .
وإنما كانوا أخسرين ، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة . ولأنهم شقُوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } [ الكهف : 103 ، 104 ] فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة .
وضمير { هم الأخسرون } ضمير فصل يفيد القصر ، وهو قصر ادّعائي ، لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة ، فكأنّهم انفردوا بالأخسرية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.