مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ} (22)

الصفة الرابعة عشرة : قوله : { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } وتقريره ما تقدم ، وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة . ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة ، فلهذا قال : { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } وقوله { لا جرم } قال الفراء : إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة ، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا ، تقول العرب : لا جرم أنك محسن ، على معنى حقا إنك محسن ، وأما النحويون فلهم فيه وجوه : الأول : لا حرف نفي وجزم ، أي قطع ، فإذا قلنا : لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . الثاني : قال الزجاج إن كلمة { لا } نفي لما ظنوا أنه ينفعهم ، و { جرم } معناه كسب ذلك الفعل ، والمعنى : لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة ، وذكرنا { جرم } بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى : { لا يجرمنكم شنآن قوم } قال الأزهري ، وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب . الثالث : قال سيبويه والأخفش : { لا } رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح ، والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم . واحتج سيبويه بقول الشاعر :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة*** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

أراد : حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا .