نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ} (22)

فلذلك قال : { لا جرم } أي لا شك { أنهم } أي هؤلاء الذين بالغوا في إنكار الآخرة { في الآخرة } ولما كان المقام جديراً{[39043]} بالمبالغة في وصفهم بالخسارة ، أعاد الضمير فقال : { هم } أي خاصة { الأخسرون } أي الأكثرون{[39044]} خسراناً من كل من يمكن{[39045]} وصفه بالخسران ؛ والإعجاز : الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه ؛ والمضاعفة : الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر ؛ والاستطاعة : قوة ينطاع{[39046]} بها الجوارح للفعل ؛ وأما " لا جرم " فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها ، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله : والغالب بعد { لا جرم } الفتح ، أي في { أن } ، ف { لا } إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في { لا أقسم } لأن في جرم معنى القسم ، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع " لا " ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق ، ف " أن " " فاعله " ، وقيل : " جرم " بمعنى حق ، وهو اسم لا و " أنهم " خبره ؛ وقال الكسائي معناها : لا صد ولا منع ؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة ، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم ، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله مضمر معبر به عن فعلهم ، و { أنهم } مفعوله ؛ وقال الفراهي : كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ، لأنه يروى عن العرب " لا جرم " - يعني بضم ثم سكون ، والفعل - يعني هكذا ، والفعل - يعني محركاً ، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد{[39047]} والبخل ؛ والجرم : القطع ، أي لا قطع من هذا كما أنه لا بد بمعنى لا قطع ، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم ، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم ، فيقال : لا جرم لآتينك ، ولا جرم أنك قائم{[39048]} ، فمن فتح فللنظر إلى أصل { لا جرم } كما نقول{[39049]} : لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل ، أي من أن ومن أنك تفعل ، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في { لا جرم } - انتهى .

فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلى أن مادة " جرم " بخصوصها دائرة على القطع ، والأصنع تفسيرها بالظن نظراً إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي - بأي ترتيب كان{[39050]} - من جرم وجمر{[39051]} ورجم ورمج ومجر ومرج ، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل : خرصها ، وأجمر النخل أيضاً : خرصها ، ورجم - إذا ظن ، والمجر : العقل ، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه جمرة النار ، والجرم - للأرض الشديدة الحر . ويلزم الظن أيضاً اجتماع الفكر ، ومنه الجمرة للقبيلة{[39052]} وكل ما شاكلها في الجمع ، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه ، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق{[39053]} لقطعه ، ويلزم الاجتماع أيضاً العظمة ، ومنه أجرم - إذا عظم ، والجمير{[39054]} كأمير : مجتمع القوم ، ومن الجمع الرياء والعقل ، فينشأ منه الصفاء ، ومنه { مارج من نار } أي لا دخان فيه ، ومنه أجرم لونه : صفا ، ومن الاجتماع المجر - بالتحريك ، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرو ، والكسب ، جرم لأهله - إذا كسب ، ومنه الذنب فإنه كسب خاص ، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير ، ويلزم الاجتماع أيضاً الاستتار{[39055]} ومنه أجمرت الليلة - استتر فيها الهلال ، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم ، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء ، ومن الاجتماع الضمور{[39056]} ، أجمر الخيل : أضمرها ، وشاة مجمرة : مهزولة ، ويلزم الاجتماع الصلابة والتمام ، ومنه حول مجرم كمعظم : تام ، فينشأ الافتراق ، ومنه تجرم{[39057]} الليل : ذهب ، وابنا جمير كأمير : الليل والنهار ، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي ؛ ومن الاجتماع الرجم{[39058]} الذي هو الخليل{[39059]} والنديم ، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء ، ومنه جرام النخل لصرامها ؛ والجمرة : الحصاة{[39060]} ، فيلزم مطلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار ، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم ، وهو يرجع أيضاً إلى نفس القطع ، فإنه قطع النفس عما كانت عليه ، ويلزم الفصل القذف والعيب ؛ والرماج كسحاب : كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض ، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه ، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة ، ومنه المرجام للماد عنقه في السير من الإبل ، وأجمر : أسرع في السير ، وقد يلزم الظن{[39061]} الحيرة ، ومنه{[39062]} حديث مرجم كمعظم : لا يوقف على حقيقته ، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب ، ومنه أمرج العهد : لم يف به ، أي جعله مارجاً مزلزلاً ، وعلى الاضطراب تدور مادة " مرج " بخصوص هذا الترتيب ، {[39063]}أو الترميج : إفساد سطور بعد كتبتها ، ويلزم الظن الاختلاط ، ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب ، وأجرم الدم به : لصق ، والإجرام : متاع الراعي ، أو هي من الكسب ، والجرام كرمان : السمك ؛ والمرج : موضع الرعي ، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب{[39064]} وهو بين في غير العقل ، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم{[39065]} النظر انفتح له ما كان مغلقاً فيعدل إليه ، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى " لا جرم " أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم ، ويكون نفي الظن{[39066]} في مثل هذا السياق نفياً لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى القطع كما إذا قيل : لا شك في كذا ولا ريب ، فاتضح أن تفسيرهم لها ب " حقاً " {[39067]} تفسير معنى لمجموع{[39068]} الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع ، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد - والله أعلم - أن لا صلة ، وموضوعها في الأصل النفي{[39069]} ، فهي نافية{[39070]} لضد ما دخلت عليه ، فكأنه قيل : حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده ، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة ، وقريب من ذلك ما قيل في " إنما " نحو إنما زيد قائم ، أي أن زيداً قائم ، ما هو إلاّ كذلك ، فقد بان {[39071]}أن النافي{[39072]} مثل ذلك مؤكد - والله{[39073]} الموفق .


[39043]:في ظ: جدير.
[39044]:من ظ، وفي الأصل: الأعظم.
[39045]:من ظ، وفي الأصل: يماسن ـ كذا.
[39046]:في ظ: تناطع.
[39047]:في ظ:الرشد.
[39048]:في ظ: قادم.
[39049]:في ظ: تقول.
[39050]:في ظ: كل.
[39051]:زيد من ظ.
[39052]:في ظ: للتلبية.
[39053]:في ظ: الخلق.
[39054]:من ظ، وفي الأصل: الجمر.
[39055]:زيد من ظ.
[39056]:من ظ، وفي الأصل: الضمار.
[39057]:في ظ: يجمر.
[39058]:من ظ، وفي الأصل: الرجمه.
[39059]:في ظ: الخيل.
[39060]:في ظ: للحصاة.
[39061]:زيد من ظ.
[39062]:من ظ، وفي الأصل: فيه.
[39063]:تأخر ما بين الرقمين في ظ عن "مارجا مزلزلا".
[39064]:تأخر ما بين الرقمين في ظ عن "مارجا مزلزلا".
[39065]:في ظ: أمعن.
[39066]:في ظ: النفي.
[39067]:من ظ، وفي الأصل: بحق.
[39068]:من ظ، وفي الأصل: مجموع.
[39069]:في ظ: المنفي.
[39070]:من ظ، وفي الأصل: باقية.
[39071]:في ظ: النافي في.
[39072]:في ظ: النافي في.
[39073]:زيد بعده في الأصل: اعلم، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.