الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ} (22)

قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ } : في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين ، ويتلخص ذلك في خمسة أوجه ، أحدها : وهو مذهب/ الخليلِ وسيبويه وجماهير الناس أنهما رُكِّبَتَا من " لا " النافيةِ و " جَرَم " ، وبُنِيَتَا على تركيبهما تركيبَ خمسةَ عشرَ ، وصار معناهما معنى فِعْلٍ وهو " حقَّ " ، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية ، فقوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ } [ النحل : 62 ] ، أي حَقَّ وثَبَتَ كونُ النار لهم ، أو استقرارها لهم . الوجه الثاني : أنَّ " لا جَرَمَ " بمنزلة لا رجل ، في كون " لا " نافيةً للجنس ، و " جَرَم " اسمُها مبنيٌّ معها على الفتح وهي واسمُها في محلِّ رفعٍ بالابتداء وما بعدهما خبرُ " لا " النافية ، وصار معناها : لا محالة ولا بُدَّ .

الثالث : كالذي قبله إلا أن " أنَّ " وما بعدها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الجار ، إذ التقدير : لا محالةَ في أنهم في الآخرة ، أي : في خسرانهم . الرابع : أن " لا " نافيةٌ لكلامٍ متقدمٍ تكلَّم به الكفرة ، فردَّ اللَّه عليهم ذلك بقولِه : " لا " ، كما تَرُدُّ " لا " هذه قبل القسم في قوله :

{ لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] ، وقوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، ثم أتى بعدها بجملةٍ فعليةٍ وهي " جرم أنَّ لهم كذا " . وجَرَمَ فعلٌ ماضٍ معناه كسب ، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلولِ عليه بسياقِ الكلام ، و " أنَّ " وما في حيِّزها في موضع المفعول به لأنَّ " جَرَم " يتعدى إذ هو بمعنى كَسَبَ . قال الشاعر :

2646 نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ *** بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا

أي : بما كسبَتْ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة . وجريمةُ القومِ كاسبُهم ، قال :

2647 جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ *** ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا

فتقديرُ الآية : كَسَبَهم فِعْلُهم أو قولُهم خسرانَهم ، وهذا هو قولُ أبي إسحاق الزجاج ، وعلى هذا فالوقف على قوله : " لا " ثم يُبتدأ ب " جَرَمَ " بخلاف ما تقدَّم .

الوجه الخامس : أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ ، وتكون " جَرَمَ " بمعنى القطع ، تقول : جَرَمْتُ ، أي : قطعت ، فيكون " جرم " اسمَ " لا " مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدم ، وخبرها " أنَّ " وما في حيِّزها ، أو على حَذْف حرف الجر ، أي : لا منع من خسرانهم ، فيعود فيه الخلافُ المشهور .

وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم ، ولا جُرَم بضمِّها ، ولا جَرَ بحذف الميم ، ولا ذا جَرَم ، ولا إنَّ ذا جَرَم ، ولا ذو جَرَم ، ولا عن ذا جَرَم ، ولا إنْ جَرَم ، ولا عن جَرَم ، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك .

وعن أبي عمروٍ : " لا جَرُم أنَّ لهم النار " على وزن لا كَرُم ، يعني بضم الراء ، ولا جَرَ ، قال : " حَذَفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : " سَوْ ترى " يريدون : سوف .

وقوله : { هُمُ الأَخْسَرُونَ } يجوز أن يكون " هم " فَصْلاً وأن يكونَ توكيداً ، وأن يكونَ مبتدأً وما بعده خبره ، والجملة خبرُ " أنَّ " .