القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ يَهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لّعَلّيَ أَبْلُغُ الأسْبَابَ * أَسْبَابَ السّمَاوَاتِ فَأَطّلِعَ إِلَىَ إِلََهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوَءُ عَمَلِهِ وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ } .
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان : يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحا لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ يعني بناءً . وقد بيّنا معنى الصرح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع ، فقال بعضهم : أسباب السموات : طرقها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي صالح أسْبابَ السّمَوَاتِ قال : طُرُق السموات .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السّمَوَاتِ قال : طُرُق السموات .
وقال آخرون : عُني بأسباب السموات : أبواب السموات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحا وكان أوّل من بنى بهذا الاَجر وطبخه لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السّمَوَاتِ : أي أبواب السموات .
وقال آخرون : بل عُني به مَنْزِل السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السّمَوَاتِ قال : منزل السماء .
وقد بيّنا فيما مضى قبل ، أن السبب : هو كلّ ما تُسَبّبَ به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك .
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسبب بها إلى رؤية إله موسى ، طرقا كانت تلك الأسباب منها ، أو أبوابا ، أو منازل ، أو غير ذلك .
وقوله : فأطّلِعَ إلى إلَهِ مُوسَى اختلف القرّاء في قراءة قوله : فأطّلِعَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : «فأطّلِعُ » بضم العين : ردّا على قوله : أبْلُغُ الأسْبابَ وعطفا به عليه . وذُكر عن حميد الأعرج أنه قرأ فأطّلِعَ نصبا جوابا للعَلّي ، وقد ذكر الفرّاء أن بعض العرب أنشده :
*** عَلّ صُرُوفِ الدّهْرِ أَوْ دُولاتِها ***
*** يُدِيلْنَنا اللّمّةَ مِنْ لَمّاتِها ***
*** فَتَسْتَرِيحَ النّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِها ***
فنصب فتستريحَ على أنها جواب للعلّ .
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الرفع في ذلك ، لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقوله : وَإني لأَظُنّهُ كاذِبا يقول : وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا .
وقوله : وكَذَلكَ زُيّنَ لِفَرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ يقول الله تعالى ذكره : وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمردّ ، قبيح عمله ، حتى سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات ، ليطلع إلى إله موسى .
وقوله : وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة : وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ بضمّ الصاد ، على وجه ما لم يُسَمّ فاعله ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ قال : فُعِل ذلك به ، زين له سوء عمله ، وصُدّ عن السبيل .
وقرأ ذلك حميد وأبو عمرو وعامة قرّاء البصرة «وَصَدّ » بفتح الصاد ، بمعنى : وأعرض فرعون عن سبيل الله التي ابتُعِث بها موسى استكبارا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ في تَبابٍ يقول تعالى ذكره : وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى ، إلا في خسار وذهاب مال وغبن ، لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلاً ، ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده ، فذلك هو الخسار والتباب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ فِي تَبابٍ يقول : في خُسران .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي تَبابٍ قال : خَسار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ فِي تَبابٍ : أي في ضلال وخسار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ فِي تَبابٍ قال : التّباب والضّلال واحد .
هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً ، وكما أشرنا إليه في سورة القصص ، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها ، وتقدم ذكر ( هامان ) والصرح هنالك .
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة ، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال : { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } [ طه : 48 ] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم ، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل . وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم ، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته ، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى : { فخرج على قومه من المحراب } [ مريم : 11 ] وقوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } [ آل عمران : 37 ] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد ، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم .
والأسباب : جمع سبب ، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد ، فيطلق السبب على الطريق ، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل . والمراد هنا : طرق السماوات ، كما في قول زهير :
ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه *** وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.