اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَٰهَٰمَٰنُ ٱبۡنِ لِي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَبۡلُغُ ٱلۡأَسۡبَٰبَ} (36)

قوله : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً } . . . الآية . قال المفسرون : إن فرعون قال لوزيره هامان : ابْنِ لي صرحاً ، والصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر ، وإن بعُدَ . وأصله من التَّصريح ، وهو الإظهار { لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات } طُرُقها{[48217]} .

فإن قيل : ما فائدة هذا التكرير ؟ ولو قيل : لَعَلِّي أبلغ أسباب السموات كان كافياً ؟

فاجاب الزمخشري عنه فقال : «إنه إذا أبهم الشيء ، ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه ، فلما أراد تفخيم السموات أبهمها ثم أوضْحَهَا »{[48218]} .

فصل

اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السموات أم لا ؟

قال ابن الخطيب : أما الظَّاهِرِيُّونَ من المفسرين فقد قطعوا بذلك ، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء الصرح . والذي عندي أن هذا بعيدٌ ، والدليل عليه أن فرعون لا يخلو إما أن يقال : إنه كان مجنوناً أو عاقلاً{[48219]} ، فإن كان مجنوناً لم يجز من الله عزّ وجلّ أن يذكر حكاية كلامه في القرآن ، وإن كان عاقلاً فنقول : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء{[48220]} يكون أرفع من الجبل العالِي ويعلم أيضاَ ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر من حال السماء بين أن ينظر إليها من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليها من أعلى الجبال ، وإذا كان هذان العلمان بديهيَّان امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء ، وإذا كان فساداً{[48221]} معلوماً بالضرورة امتنع إسْنَادُهُ إلَى فِرْعَوْنَ . والذي عندي في تفسير هذه الآية ، أنَّ فِرْعَونَ كان من الدهرية{[48222]} ، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال : إنّا لا نرى شيئاً نحكم عليه أنه إله العالم ، فإنه لو كان موجوداً لكان في السماء ، ونحن لا{[48223]} سبيلَ لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه ، ثم إنه لأجل المبالغة لبيان أنه لا يمكن الصعود إلى السماء قال : { ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب } والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحِسِّ ممتنعاً . ونظيره قوله تعالى : { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } [ الأنعام : 35 ] وليس المراد منه أن محمداً عليه الصلاة والسلام طلبَ نفقاً في الأرض ، أو وضع سُلَّماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيلَ لك إلى تحصيل ذلك المقصود ، كذا ههنا غرض فرعون من قوله : { يا هامان ابن لي صرحاً } يعني أن الاطلاع إلى إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق ، وكان هذا الطريق ممتنعاً ، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى .

واعلم أن هذه الشبهة فاسدةٌ ؛ لأن طرق العلم ثلاثة : الحِسّ ، والخَبَر ، النَّظَر ، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحِسَّ انتفاء المطلوب ؛ وذلك لأن موسى عليه الصلاة والسلام كان قد بين لفرعون أن الطريقَ في معرفة الله تعالى إنما هو الحُجَّة ، والدليل كما قال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] { رَبُّ المشرق والمغرب } [ المزمل : 9 ] إلا أن فرعونَ بِخُبْثِهِ ومَكْرهِ تغافل عن ذلك الدليل ، وألقى إلى الجُهّال أنه لما كان لا طريق إلى الإحساس بهذه الإله وجب نفيه{[48224]} .


[48217]:نقله البغوي في تفسيره 6/95.
[48218]:كشافه 3/427.
[48219]:في الرازي من المجانين أو كان من العقلاء.
[48220]:كذا في الرازي وفي ب "ما" دون "بناء".
[48221]:في الرازي فساد هذا وفي ب فساده.
[48222]:الذين ينسبون كل شيء وقع ويقع إلى الطبيعة والدهر، ولا شك أن هذا المذهب باطل وفوضى.
[48223]:كذا في الرازي وفي ب فلا.
[48224]:وانظر تفسير الرازي 27/65 و66.