معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

ثم دعاهما إلى الإسلام فقال : { يا صاحبي السجن } ، جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه ، كما يقال لسكان الجنة : أصحاب الجنة ، ولسكان النار : أصحاب النار ، { أأرباب متفرقون } ، أي : آلهة شتى ، هذا من ذهب ، وهذا من فضة ، وهذا من حديد ، وهذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدنى ، متباينون لا تضر ولا تنفع ، { خير أم الله الواحد القهار } ، الذي لا ثاني له . القهار : الغالب على الكل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

وبعد أن عرف يوسف صاحبيه في السجن بنفسه وبملته وبآبائه . شرع يقيم لهم الأدلة على صحة عقيدته ، وعلى فساد عقيدتهما فقال - كما حكى القرآن عنه : { ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } .

أى : يا صاحبى ورفيقى في السجن أخبرانى بربكما ، أعبادة عدد من الأرباب المتفرقة في ذواتها وصفاتها " خير " لكما " أم " عبادة الله - تعالى - " الواحد " في ذاته وصفاته " القهار " لكل من غالبه أو نازعه ؟

وكرر نداءهما بالصحبة ليتحبب إليهما بهذه الصفة التي فيها إيناس للقلوب ، وليسترعى انتباههما إلى ما سيقوله لهما .

قال صاحب المنار ما ملخصه : " وقوله : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ . . . } هذا استفهام تقرير بعد تخيير ، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد ، وكان المصريون المخاطبون به ، يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين في ذواتهم وفى صفاتهم وفى الأعمال التي يسندونها إليهم بزعمهم ، فهو يقول لصاحبيه أأرباب متفرقون ، أى عديدون هذا شأنهم في التفرق والانقسام " خير " لكما ولغيركما { أَمِ الله الواحد القهار . . }

ولا شك أن الجواب الذي لا يختلف فيه عاقلان ، أن عبادة الله - تعالى - الواحد القهار ، هي العبادة الصحيحة التي توافق الفطرة السليمة والعقول القويمة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

استيناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به .

وعبّر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إمّا لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه ، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة ، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها .

واتفق القراء على كسر سين { السّجن } هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون ، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان .

والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية ، مثل : مكر الليل ، أي يا صاحبيْن في السجن .

وأراد بالكلام الذي كلّمهما به تقريرهما بإبطال دينهما ، فالاستفهام تقريري . وقد رَتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة ، إذ فرض لهما إلهاً واحداً مستفرداً بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها . وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم ، وذلك حال ملة القبط .

ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى ، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة . وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد .

هذا إذا حمل لفظ { خير } على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة . ويجوز أن يكون { خير } مستعملاً في معنى الخير عند العقل ، أي الرجحان والقبول . والمعنى : اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد ، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة ، إذ يتبين لهما أن أرباباً متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم ، كما يومىء إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية .

وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شِرك ، أي تعدد الآلهة . وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى . وذلك هو شأن سائر أديان الشرك ، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة . والأممُ الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم .

نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى . ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالاً من مشركي العرب الذين ألّهوا الحجارة . وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر :

وفرّت ثقيف إلى لاتها

وأحسن حالاً من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزاً للنجوم والكواكب .

وكانت آلهة القبط نحواً من ثلاثين رباً أكبرها عندهم آمون رُعْ . ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي : أوزوريس ، وأزيس ، وهوروس . فللّه بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال : { أأربابٌ متفرقون } [ سورة يوسف : 39 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم دعاهما إلى الإسلام وهما كافران، فقال: {يا صاحبي السجن}، يعني: الخباز والساقي.

{أأرباب متفرقون خير}، أآلهة شتى تعبدون خير، يعني: أفضل،

{أم الله الواحد القهار} لخلقه؛ لأن الآلهة مقهورة، كقوله في النمل: {آلله خير أما يشركون} [النمل:59] من الآلهة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ذُكر أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال هذا القول للفتيين اللذين دخلا معه السجن؛ لأن أحدهما كان مشركا، فدعاه بهذا القول إلى الإسلام وترك عبادة الآلهة والأوثان، فقال: {يا صَاحِبَيِ السّجْنِ}، يعني: يا من هو في السجن. وجعلهما صاحبيه لكونهما فيه، كما قال الله تعالى لسكان الجنة: {أولَئِكَ أصْحابُ الجَنّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}، وكذلك قال لأهل النار، وسمّاهم أصحابها لكونهم فيها.

وقوله: {أأرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أم اللّهُ الوَاحِدُ القَهّارِ}، يقول: أعبادة أرباب شتى متفرّقين وآلهة لا تنفع ولا تضرّ خير، أم عبادة المعبود الواحد الذي لا ثاني له في قدرته وسلطانه، الذي قهر كلّ شيء فذَلَّلَهُ وسخره، فأطاعه طوعا وكرها... عن قتادة، قوله: {يا صَاحِبَيِ السّجْنَ أأرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ}، إلى قوله: {لا يَعْلَمُونَ}، لما عرف نبي الله يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما...

عن مجاهد: {يا صَاحِبَيِ السّجْنِ}، يوسف يقوله...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فيه وجهان:

أحدهما... (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أي عبادة رب واحد وإرضاؤه خير أم عبادة عدد وإرضاء نفر؛ لأنه إذا عبد بعضا، واجتهد في إرضائهم أسخط الباقين. فلا سبيل إلى الوصول إلى مقصوده والظفر بحاجته إذا لم يقدر على إرضائهم جميعا، وإن اجتهد، وأما الواحد فإنه يقدر على إرضائه؛ إذ لا يزال في عبادته وإرضائه، فيصل إلى حاجته والظفر بمقصوده. والثاني: يخبر أن الواحد القهار يقهر غيره من الأرباب ومن تعبدون. فعبادة الواحد القهار خير من عبادة عدد مقهورين...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ولما فرغَ من تفسير التوحيد، والدعاء إلى الحق سبحانه أجابهما فقال: {يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أسماء سَمَّيْتُمُوها أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكتَ حين أخذ في شرح التوحيد وذكر المعبود، وفي الخبر:"مَنْ أحبَّ شيئاً أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِه".

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يا صاحبي السجن} يريد يا صاحبيَّ في السجن... ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله: {أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]. {ءَأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ} يريد التفرّق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أرباب شتى، يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا {خَيْرٌ} لكما {أَمِ} أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو {القهار} الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنيا على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناما على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام، فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعا من الدلائل والحجج:

الحجة الأولى: قوله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} وتقرير هذه الحجة أن نقول: إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل، وكون الإله واحدا يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.

والحجة الثانية: أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار، فقوله: {أأرباب} إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحدا وقوله: {متفرقون} إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر، واللون والشكل، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله: {متفرقون} إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهارا فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.

والحجة الثالثة: أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحدا ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو، فهذا أيضا وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.

الحجة الرابعة: أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات، إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى. الحجة الخامسة: وهي شريفة عالية، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا ويجب أن يكون واحدا، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهرا لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئا غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس. فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعاً لخلاصة الخلق، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق، ولكنهم يشركون به بعض خلقه، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم، تأييداً لأدلة النقل بقاطع العقل، فقال منادياً لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه المودة، وتمحض فيه النصيحة، وتصفي فيه القلوب، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص -: {ياصاحبي السجن} والصحبة: ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلاً، لملازمة الاختصاص بمذهبه، وهي خلاف ملازمة الاتصال. ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال: {أرباب} أي آلهة {متفرقون} متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جماداً، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية {خير} أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة {أم الله} أي الملك الأعلى {الواحد} بالذات، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلاً {القهار} لكل شيء، لا يزال قهره يتكرر أبداً، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن، وأبرزه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام استجلاباً للسامع برد العلم إليه، وسماها أرباباً لمثل ذلك بناء على زعمهم، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف، لكونه ألين في القول، فيكون أدعى إلى القبول...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ، ومعنى التفرّق هنا هو التفرّق في الذوات والصفات والعدد أي: هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم، المختلفون في صفاتهم، المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرّد في ذاته وصفاته الذي لا ضدّ له ولا ندّ ولا شريك، القهار الذي لا يغالبه مغالب، ولا يعانده معاند...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... {أأرباب متفرقون} هذا استفهام تقرير بعد تحيير، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد، وكان المصريون المخاطبون به يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين في ذواتهم، وفي صفاتهم المعنوية التي ينعتونهم بها، وفي صفاتهم الحسية التي يصورها لهم الكهنة والرؤساء بالرسوم المنقوشة والتماثيل المنصوبة في المعابد والهياكل، وفي الأعمال التي يسندونها إليهم بزعمهم، فهو يقول لصاحبيه "أأرباب متفرقون "أي عديدون هذا شأنهم في التفرق والانقسام، وما يقتضيه بطبعه من التنازع والاختلاف في الأعمال، والتدبير المفسد للنظام، هو {خير} لكما ولغيركما من الأفراد والأقوام، فيما تطلبون ويطلبون من كشف الضر وجلب النفع، وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة والتوفيق من عالم الغيب.

{أم الله} الواجب الوجود، الخالق لكل موجود {الواحد} في ذاته وصفاته وأفعاله، المنفرد الخلق والتقدير والتسخير، الذي لا ينازع ولا يعارض في التصرف والتدبير {القهار} بقدرته التامة وإرادته العامة، وعزته الغالبة، لجميع القوى والسنن والنواميس التي يقوم بها نظام العوالم السماوية والأرضية، كالنور والهواء والماء الظاهرة، والملائكة والشياطين الباطنة، التي كان الجهل بحقيقتها، وسبب اختلاف مظاهرها، هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها؟ الجواب الذي لا يختلف فيه عاقلان أدركا السؤال: بل: هو الله الواحد القهار، لا رب غيره ولا إله سواه، ولذلك رتب عليه قوله: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40)}.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

ناداهما بعنوان الصحبة في هذه الدار التي هي دار الأشجان وموضع الهموم والأحزان، وفيها تصفو المودة وتخلص النصيحة ليَصْغَيَا إلى مقاله، ويقبلا على استماع ما يُلْقي إليهما به، فالآذان حينئذ مرهفة، والقلوب قد انصرفت عن الدنيا ولذاتها، وتفرغت لعالم آخر غير ما يشغل الناس من زِبْرج هذه الحياة وزخرفها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. لقد رسم يوسف -عليه السلام- بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة. كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا عنيفا.. (يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟).. إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة. وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنما يعرضها قضية موضوعية: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟).. وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزا شديدا.. إن الفطرة تعرف لها إلها واحد ففيم إذن تعدد الأرباب؟.. إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار. ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعا لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس. وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله ربا.. إن الرب لا بد أن يكون إلها يملك أمر هذا الكون ويسيره. ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله ربا للناس يقهرهم بحكمه، وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره! والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب -كالشأن في كل الأرباب إلا الله- وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم.. فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته؛ أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة، أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها، ومن حرصها على ذواتها وبقائها، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أومن بعيد؛ وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثئ نفختها الخادعة! والله الواحد القهار في غنى عن العالمين؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة -وفق منهجه- فيعد لهم هذا كله عبادة. وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم، لإصلاح حياتهم وواقعهم.. وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين! (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد).. ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد!...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

السّجن أو مركز التّربية:

حين هيّأ يوسف في البحث السابق قلوب السجينين لقبول حقيقة التوحيد، توجّه إليهما وقال: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار). فكأنّ يوسف يريد أن يفهم السجينين أنّه لِمَ تريانِ الحرية في النوم ولا تريانها في اليقظة؟! أليس ذلك من تفرقتكم وشرككم ونفاقكم الذي مصدره عبادة الأوثان والأرباب المتفرّقين ممّا سبّب أن يتغلّب عليكم الطغاة والجبابرة؟! فلِمَ لا تجتمعون تحت راية التوحيد، وتعتصموا بحبل الواحد القهّار، لتطردوا من مجتمعكم هؤلاء الظالمين والجبابرة الذين يسوقونكم إلى السجن أبرياء دون ذنب؟!...