ثم بين - سبحانه - أن آدم - عليه السلام - مع هذه النصائح والتحذيرات لم يستطيع أن يستمر على الاستجابة لنهى ربه إياه عن الأكل من الشجرة ، بل تغلب عليه ضعفه فاستمع إلى مكر الشيطان ، قال - تعالى - : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } .
والوسوسة : الخطرة الرديئة ، وأصلها من الوسواس ، وهو صوت الحلى ، والهمس الخفى . والوسواس - بكسر الواو الأولى - مصدر وبفتحها الاسم وهو من أسماء الشيطان ، كما قال - تعالى - : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس مَلِكِ الناس إله الناس مِن شَرِّ الوسواس الخناس الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس } ويقال : وسوس فلان إلى فلان ، أى : أوصلها إليه ، ووسوس له ، أى : من أجله . أى فأوصل الشيطان وسوسته إلى آدم ، وأنهاها إليه ، بأن قال له : يا آدم ، هل أدلك على الشجرة التى من أكل منها عاش مخلدا لا يدركه الموت وصار صاحب ملك لا يفنى ، ولا يصبح باليا ابدا .
وناداه باسمه ، ليكون أكثر إقبالا عليه ، وأمكن فى الاستماع إليه .
وعرض عليه ما عرض فى صورة الاستفهام الذى بمعنى الحث والحض ، ليشعره بأنه ناصح له وحريض على مصلحته ومنفعته .
و «وسوسة الشيطان » قيل كانت دون مشافهة ، إلقاء في النفس ، وقيل بل كان بالمشافهة والمخاطبة وهو ظاهر القصة من غير ما موضع وكان دخوله إلى الجنة فيما روي في فم الحية ، وكان آدم عليه السلام قد قال الله تعالى له لا تأكل من هذه الشجرة وعين له شجرة قد تقدم الخلاف في جنسها فلما وصفها له إبليس بأنها { شجرة الخلد وملك لا يبلى } أي من أكلها كان ملكاً مخلداً عمد آدم إلى غير تلك التي نهي عنها من جنسها فأكلها بتأويل أن النهي كان في تلك المعينة ، وقيل بل تأول أن النهي إنما كان على الندب لا على التحريم البت ، وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي فلما رآها آدم قد أكلت أكل فطارت عنهما ثيابهما ، وظهر تبري الأشياء منهما وبدت سوءاتهما .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشّيْطَانُ" يقول: فألقى إلى آدم الشّيطان وحدّثه "فَقالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ "يقول: قال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت فلم تمت، وملكت ملكا لا ينقضي فيبلى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر تعالى أن إبليس وسوس لآدم، فقال له "هل أدلك على شجرة الخلد... "أي على شجرة إن تناولت منها بقيت في الجنة مخلدا لا تخرج منها، وحصل لك ملك وسلطان لا يبلى على الأبد، ولا يهلك، وهي الشجرة التي نهاه الله تعالى عن تناولها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعنى «وسوس إليه» أنهى إليه الوسوسة... أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود، لأن من أكل منها خلد بزعمه...
واعلم أنه سبحانه بين أنه عظم آدم عليه السلام بأن جعله مسجودا للملائكة وبين أنه عرفه شدة عداوة إبليس له ولزوجه وأنه لعداوته يدعوهم إلى المعصية التي إذا وقعت زالت تلك النعم بأسرها، ثم إنه مع ذلك اتفق منه ومن حواء الإقدام على الزلة ما اتفق... ولكن المكادحة مع قضاء الله تعالى ممتنعة. واعلم أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} ورغبه إبليس أيضا في دوام الراحة بقوله: {هل أدلك على شجرة الخلد} وفي انتظام المعيشة بقوله: {وملك لا يبلى} فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي رغبه إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي. ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله تعالى ذلك وقدره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فوسوس} أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس {إليه الشيطان} المحترق المطرود، وهو إبليس، أي ألقى على وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم، وقذف المعاني في قلبه، وكأنه عبر ب "إلى"، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد... وكأنه قيل: ما دس إليه؟ فقيل: {قال يا آدم} ثم ساق له الغش مساق العرض، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله: {هل أدلك} فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله: {على شجرة الخلد} أي التي من أكل منها خلد، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله: {وملك لا يبلى} أي لا يخلَق أصلاً، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال: نعم، فقال: شجرة الخلد هذه -مشيراً إلى التي نهي عنها- ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال {قَالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ثم عرض عليه ما عرض على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنصح...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن آدم كان غفلا من التجارب. وهو يحمل الضعف البشري تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان. ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان: (فوسوس إليه الشيطان قال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟) لقد لمس في نفسه الموضع الحساس، فالعمر البشري محدود، والقوة البشرية محدودة. من هنا يتطلع إلى الحياة الطويلة وإلى الملك الطويل، ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان، وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر، لأمر مقدور وحكمة مخبوءة.. ومن ثم نسي العهد، وأقدم على المحظور:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {قَالَ يَا آدَمِ} [طه: 117] بيان لجملة {فوسوس لهما الشيطان}. وهذه الآية مثال للجملة المبيّنة لغيرها في علم المعاني. وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي؛ إما بألفاظ نطق بها الشيطان سراً لآدم لئلا يطّلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان، فيكونُ إطلاق القول عليه حقيقة؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا، فيكون إطلاق القول عليه مجازاً باعتبار المشابهة. و {هَلْ أدُلُّكَ} استفهام مستعمل في العَرض، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته. والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه...
والمُلك: التحرر من حكم الغير، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرّف فيها غير مأمور لآمر. واستعمل البِلى مجازاً في الانتهاء، لأنّ الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... كان نعيم الجنة نعيما هادئا آمنا، ولكن لم يذكر أنه خالد، ومن كان في عيشة راضية تمنى أن تكون باقية، فجاء إبليس من ناحية هذه الأمنية، وقال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد، وملك لا يبلى، وسوس إليهما بقول خفي يشبه وسوسة الذهب، وأثار التمني في نفسه بقوله: {هل أدلك على شجرة الخلد} الاستفهام هنا للتنبيه أي أن هذه الشجرة التي نهي عن الأكل منها هي شجرة الخلد من أكل منها نال الخلود والبقاء والسلطان والسيطرة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الوسوسة» في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً، ثمّ قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيّئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من خارجة. إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أي شيء، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة والوصول إلى القدرة الأزليّة، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين واستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر الله. وبتعبير آخر: فكما أنّ الله قد وعد آدم بأنّك إن تجنّبت الشيطان وخالفته فستحظى بالتنّعم في الجنّة دائماً، فإنّ الشيطان قد وسوس إليه عن هذا الطريق أي أنّه سيخلد في الجنّة أيضاً. أجل.. إنّ الشياطين يبدؤون دائماً في بداية خططهم من نفس النقاط والطرق التي يبدأ منها المرشدون إلى طريق الحقّ، لكن لا تمرّ الأيّام حتّى يجروهم إلى هاوية الانحراف، ويجعلون جاذبية طريق الحقّ وسيلة للوصول إلى المتاهات.