ثم أمره - سبحانه - للمرة الثالثة ، أن يبين لهم أنهم لا قدرة لهم على مجادلته أو محاربته ، لأن الله - تعالى - قد سلحه بما ينصره عليهم فقال : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب } .
وأصل القذف : الرمى بقوة وشدة والمراد به هنا : ما يوحيه الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن وتوجيهات وإلهامات ، والباء فى قوله { بالحق } للسببية .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - إن ربى يلقى الوحى إلى وإلى أنبيائه ، بسبب الحق الذى كلفهم بتبليغه إلى الناس ، وهو - سبحانه - وحده علام الغيوب .
قال الجمل : ما ملخصه قوله : { يَقْذِفُ بالحق } يجوز أن يكون مفعوله محذوفا ، لأنه القذف فى الأصل الرمى ، وعبر به هنا عن الإِلقاء . أى : يلقى الوحى إلى أنبيائه بالحق ، أى : بسبب الحق ، أو متلبسا الحق .
ويجوز أن يكون التقدير : يقذف الباطل بالحق ، كما قال - تعالى - { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } ويجوز أن يكون المعنى : قل إن ربى يقضى ويحكم بالحق ، بتضمين " يقذف " معنى يقضى ويحكم .
وقوله { يقذف بالحق } يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه ، وقرأ جمهور القراء «علاّمُ » بالرفع أي هو علام ، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق «علاّمَ » بالنصب إما على البدل من اسم { إن } وإما على المدح ، وقرأ الأعمش «بالحق هو علام الغيوب » ، وقرأ عاصم «الغِيوب » بكسر الغين .
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم .
وأعيد فعل { قل } للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفاً .
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده . فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد . وهذا الاختصاص باعتبار ما في { يقذف بالحق } من معنى : الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم .
والقذف : إلقاء شيء من اليد ، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة ، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه . والمعنى : أن ربي يقذفكم بالحق .
أو هو إشارة إلى قوله : { بل نقذف بالحق على الباطل } [ الأنبياء : 18 ] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين .
وتخصيص وصف { علام الغيوب } من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا ، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترىء على الله بادعائه باطلاً أنه أرسله إليكم ، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري .
ويجوز أن يكون معنى : { يقذف بالحق } يرسل الوحي ، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [ غافر : 15 ] ويكون قوله { علام الغيوب } إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون : لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد .
وارتفع { علام } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو علاّم الغيوب ، أو على أنه نعت لاسم { إنّ } إما مقطوع ، وإما لمراعاة محل اسم { إنّ } حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق . وقال الفراء : رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب . ومثَّله بالبدل في قوله تعالى : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] .
وقرأ الجهور { الغيوب } بضم الغين . وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في بَاء « بيوت » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.