قوله : { إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } يجوز أن يكون «يَقْذِفُ بالْحَقِّ » مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالْحَقِّ » أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق . ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه{[44829]} ، كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } [ الأنبياء : 18 ] . ويجوز أن يكون الباء{[44830]} زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ{[44831]} ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو تضمن «يقذف » معنى يقضي ويحكم{[44832]} ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام{[44833]} .
قال المفسرون : معناه نأتي{[44834]} بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء{[44835]} . قوله : { عَلاَّمُ الغيوب } العامة على رفعه وفيه أوجه :
أظهرها : أنه خبر ( ثانٍ ){[44836]} ل «إنّ »{[44837]} أو خبر لمبتدأ مضمر{[44838]} أو بدل من الضمير في «يَقْذِفُ »{[44839]} أو نعت له على رأي الكسائي ؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب . وقد صرح به هنا{[44840]} وقال الزمخشري : رفع على محل إنَّ واسْمِها ، أو على المستكِنِّ في «يَقذف »{[44841]} يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم . ويريد بالحمل{[44842]} على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي{[44843]} ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً{[44844]} لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على{[44845]} المدح . وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين . فالضم والكسر تقدما في «بُيُوتٍ »{[44846]} وبابه . وأما الفتح صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ{[44847]} .
قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان :
أحدهما : نقذف بالحق في قلوب المحقين . وعلى هذا تُعَلَّقُ{[44848]} الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه ( الصلاة{[44849]} و ) السلام- بقوله : { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ } وأكده بقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم } وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال{[44850]} الذكر عليه كما حكى{[44851]} عنهم قولهم{[44852]} : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } في القلوب ( إشارة{[44853]} إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء ثم قال : { علام الغيوب } ) إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من فعل شيئا كما يريد من غير اختصاص محل{[44854]} الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل{[44855]} اتفاقاً ، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة ، فقال : «بالْحقِّ » كيف شاء{[44856]} وهو عالم بما يفعله ( دعاكم ){[44857]} بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب .
الوجه الثاني : أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من{[44858]} حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة{[44859]} قال : «إن ربي يقذف بالحق » أي يُبْلي{[44860]} باطلكم . وعلى هذا الوجه فقوله : «علام الغيوب » هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار{[44861]} الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال : { يَقْذِفُ بالحق } أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة . ثم قال : «عَلاَّم الغُيُوبِ » أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها{[44862]} فهو لا خُلْف فيه فإن الله علام الغيوب . وتحتمل الآية وجهاً{[44863]} آخر وهو أن يقال : «{ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } أي ما يقذفه بالحق لا بالباطل . والباء{[44864]} على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباء في قوله : «بالحق » كالباء في قوله تعالى : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب{[44865]} الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.