اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (48)

قوله : { إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } يجوز أن يكون «يَقْذِفُ بالْحَقِّ » مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالْحَقِّ » أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق . ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه{[44829]} ، كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } [ الأنبياء : 18 ] . ويجوز أن يكون الباء{[44830]} زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ{[44831]} ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو تضمن «يقذف » معنى يقضي ويحكم{[44832]} ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام{[44833]} .

قال المفسرون : معناه نأتي{[44834]} بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء{[44835]} . قوله : { عَلاَّمُ الغيوب } العامة على رفعه وفيه أوجه :

أظهرها : أنه خبر ( ثانٍ ){[44836]} ل «إنّ »{[44837]} أو خبر لمبتدأ مضمر{[44838]} أو بدل من الضمير في «يَقْذِفُ »{[44839]} أو نعت له على رأي الكسائي ؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب . وقد صرح به هنا{[44840]} وقال الزمخشري : رفع على محل إنَّ واسْمِها ، أو على المستكِنِّ في «يَقذف »{[44841]} يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم . ويريد بالحمل{[44842]} على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي{[44843]} ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً{[44844]} لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على{[44845]} المدح . وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين . فالضم والكسر تقدما في «بُيُوتٍ »{[44846]} وبابه . وأما الفتح صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ{[44847]} .

فصل

قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان :

أحدهما : نقذف بالحق في قلوب المحقين . وعلى هذا تُعَلَّقُ{[44848]} الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه ( الصلاة{[44849]} و ) السلام- بقوله : { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ } وأكده بقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم } وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال{[44850]} الذكر عليه كما حكى{[44851]} عنهم قولهم{[44852]} : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } في القلوب ( إشارة{[44853]} إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء ثم قال : { علام الغيوب } ) إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من فعل شيئا كما يريد من غير اختصاص محل{[44854]} الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل{[44855]} اتفاقاً ، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة ، فقال : «بالْحقِّ » كيف شاء{[44856]} وهو عالم بما يفعله ( دعاكم ){[44857]} بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب .

الوجه الثاني : أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من{[44858]} حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة{[44859]} قال : «إن ربي يقذف بالحق » أي يُبْلي{[44860]} باطلكم . وعلى هذا الوجه فقوله : «علام الغيوب » هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار{[44861]} الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال : { يَقْذِفُ بالحق } أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة . ثم قال : «عَلاَّم الغُيُوبِ » أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها{[44862]} فهو لا خُلْف فيه فإن الله علام الغيوب . وتحتمل الآية وجهاً{[44863]} آخر وهو أن يقال : «{ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } أي ما يقذفه بالحق لا بالباطل . والباء{[44864]} على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباء في قوله : «بالحق » كالباء في قوله تعالى : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب{[44865]} الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم .


[44829]:المراجع السابقة.
[44830]:أوردها أبو حيان في بحره وضعفها قال: "فإذا جعلت بالحق هو المفعول كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد فيه". البحر 7/292. وقد جوز زيادة الباء هنا شهاب الدين السمين في الدر المصون 4/455.
[44831]:ما بين القوسين كله ساقط من "ب".
[44832]:المرجع الأخير السابق.
[44833]:قاله في اللسان 3560.
[44834]:قال بذلك أبو عبيدة في المجاز 2/150 وابن قتيبة في الغريب 358، وابن الجوزي في الزاد 6/466 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/258 وانظر: البحر المحيط 7/292 ومعالم التنزيل للبغوي 5/295 والخازن عليه وغير ذلك.
[44835]:المراجع السابقة.
[44836]:سقط من "ب".
[44837]:بعد الأول وهو : "يقذف". قاله ابن الأنباري في البيان 2/283 والعكبري في التبيان 1071 والسمين في الدر 4/455.
[44838]:قاله الكشاف 3/295 وابن الأنباري وأبو البقاء والسمين المراجع السابقة.
[44839]:قاله مكي في مشكل إعراب القرآن 2/212 وانظر المراجع السابقة أيضا. كما ذكره أيضا الزجاج في إعراب القرآن 4/285 والنحاس أيضا في الإعراب 3/354 والقرطبي في الجامع 14/313.
[44840]:نقله عنه أبو حيان في البحر 7/292.
[44841]:ذكره في الكشاف 3/295.
[44842]:في "ب" المحل لا الحمل وهو تحريف.
[44843]:هذا رد أبي حيان والسمين في البحر 7/292 والدر 4/456 وقد اعترض أبو حيان لأن غالب أهل البصرة قد وضعوا للعطف على المحل شروطا منها وجود المحرز، وهو الطالب للمحل وبعض البصريين والكوفيين لا يشترط المحرز، ولأن إن لم تعمل عندهم في الخبر شيئا بل هو مرفوع بما كان مرفوعا قبل دخولها.
[44844]:في "ب" نعت بالرفع والقراءة شاذة وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر 22. وهي جائزة لغويا. وقد ذكرها النحاس 3/354 والفراء 2/364 والزجاج 4/257 وابن الأنباري في البيان 2/283.
[44845]:قاله العكبري في التبيان 1071 والزمخشري في الكشاف 3/295.
[44846]:من قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} النور آية 36 أو {إن بيوتنا عورة} الأحزاب آية 13. وقد كسر الغين من "الغيوب" حمزة وأبو بكر وضمها الباقون فهي قراء متواترة وضم "بيوت" ورش وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر ويعقوب. وانظر النشر 2/351 وتقريبه 162 والكشف 2/208، والإتحاف 360.
[44847]:ذكره القرطبي 14/313 و الكشاف 3/295 والبحر 7/292 والدر 4/456 ولم ينص عليها قراءة.
[44848]:فيه: "وعلى هذا للآية تعلق بما قبلها".
[44849]:سقط من "أ".
[44850]:فيه: الذكر وهو الأصح.
[44851]:فيه: كما قال تعالى عنهم.
[44852]:في "ب": قوله.
[44853]:ما بين القوسين ساقط من "ب".
[44854]:في "ب": المحل وما في الفخر يوافق "أ".
[44855]:في الفخر: وإنما فعل ذلك.
[44856]:في الفخر تشاء.
[44857]:سقط من "ب" وتصحيحها وعالم.
[44858]:في الفخر: وذلك من حيث.
[44859]:وفيه: ودحضت شبهتهم.
[44860]:فيه: أي على باطلكم.
[44861]:فيه: غير إخبار.
[44862]:وفيه: وأحوالها.
[44863]:وفيه: تفسير بدل وجه.
[44864]:في "ب" : والباطل. وهو تحريف.
[44865]:في "ب": قلب وهو يوافق الفخر.