الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (48)

قوله : { يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفاً ؛ لأنَّ القَذْفَ في الأصلِ الرَّمْيُ . وعَبَّر به هنا عن الإِلقاءِ أي : يُلْقي الوحيَ إلى أنبيائِه بالحقِّ . أي : بسبب الحق ، أو مُلْتَبِساً بالحقِّ . ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : يَقْذِفُ الباطِلَ بالحقِّ أي : يَدْفَعُه ويَطْرَحُه به ، كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ } [ الأنبياء : 18 ] . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ زائدةً ، أي : يُلقي الحقَّ كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، أو يُضَمَّنُ " يقْذِفُ " معنى يَقْضي ويَحْكُمُ .

قوله : " عَلاَّمُ الغيوبِ " العامَّةُ على رفعه . وفيه أوجهٌ ، أظهرُها : أنه خبرٌ ثانٍ ل " إنَّ " ، أو خبرُ مبتدأ مُضْمرٍ ، أو بدلٌ من الضمير في " يَقْذِفُ " ، أو نعتٌ له على رأي الكسائي ؛ لأنه يُجيز نعتَ الضميرِ الغائبِ ، وقد صَرَّح به هنا . وقال الزمخشريُّ : " رَفْعٌ على محلِّ " إنَّ " واسمِها ، أو على المستكنِّ في " يَقْذِفُ " . قلتُ : يعني بقولِه : " محمولٌ على مَحَلِّ إنَّ واسمِها " يعني به النعتَ ، إلاَّ أنَّ ذلك ليس مذهبَ البصريين ، لم يَعْتبروا المحلَّ إلاَّ في العطفِ بالحرف بشروطٍ عند بعضِهم . ويريدُ بالحَمْل على الضمير في " يَقْذِفُ " أنَّه بدلٌ منه ، لاَ أنه نعتٌ له ؛ لأنَّ ذلك انفرد به الكسائيُّ . وزيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم " إنَّ " أو بدلاً منه على قلةِ الإِبدالِ بالمشتق أو منصوبٌ على المدح .

وقرئ " الغيوبِ " بالحركاتِ الثلاثِ في الغين . فالكسرُ والضمُّ تقدَّما في " بيوت " وبابِه ، وأمَّا الفتحُ فصيغةُ مبالغةٍ كالشَّكور والصَّبور ، وهو الشيءُ الغائبُ الخفيُّ جداً .