قوله تعالى : { ترى كثيراً منهم } ، قيل : من اليهود ، كعب بن الأشرف وأصحابه .
قوله تعالى : { يتولون الذين كفروا } ، مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس ومجاهد ، والحسن : ( منهم ) يعني من المنافقين : يتولون اليهود .
قوله تعالى : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } ، بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة .
قوله تعالى : " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . . . . . . . . . . " أي : ترى - أيها الرسول الكريم - كثيرا من بني إسرائيل المعاصرين لك يوالون الكافرين ويحالفونهم عليك ؛ بسبب حسدهم لك على ما آتاك الله من فضله وبسبب كراهتهم للإِسلام والمسلمين .
والذي يقرأ تاريخ الدعوة الإِسلامية يرى أن اليهود كانوا دائما يضعون العراقيل في طريقها ، ويناصرون كل محارب لها ، ففي غزوة الأحزاب انضم بنو قريظة إلى المشركين ولم يقيموا وزنا للعهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين .
وفي كل زمان ومكان نرى أن اليهود يحاربون الإِسلام والمسلمين ، ويؤيدون كل من يريد لهما الشرور والأضرار .
وقوله : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ } ذم لهم على موالاتهم للمشركين وبيان لما حق بهم من سوء المصير بسبب مناصرتهم لأعداء الله ، ومحاربتهم لأوليائه .
أي : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم من أقوال كاذبة وأعمال قبيحة وأفعال منكرة استحقوا بسبها سخط الله عليهم ، ولعنه إياهم كما استحقوا أيضاً بسببها الخلود الدائم في العذاب المهين .
قال الجمل : و { ما } في قوله { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } هي الفاعل ، وقوله : { وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ } هذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم فالتقدير : سخط الله عليهم وخلدهم في العذاب .
وقوله : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين . وقوله : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني بذلك موالاتهم للكافرين ، وتركهم موالاة المؤمنين ، التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم ، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم ؛ ولهذا قال : { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } فسر بذلك ما ذمهم به . ثم أخيرًا أنهم { وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } يعني يوم القيامة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مسلمة{[10191]} بن علي ، عن الأعمش بإسناد ذكره قال : " يا معشر المسلمين ، إياكم والزنا ، فإن فيه ست خصال ، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة ، فأما التي في الدنيا : فإنه يُذهب البهاء ، ويُورِث الفقر ، ويُنقِص العمر . وأما التي في الآخرة : فإنه يُوجب سَخَط الرب ، وسوء الحساب ، والخلود في النار " . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }
هكذا ذكره ابن أبي حاتم ، وقد رواه ابن مَرْدُويه عن طريق هشام بن عمار ، عن مسلمة{[10192]} عن الأعمش ، عن شَقِيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره . وساقه أيضًا من طريق سعيد بن غُفَير ، عن مسلمة ، عن أبي عبد الرحمن الكوفي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .
وهذا حديث ضعيف على كل حال{[10193]} والله أعلم .
{ ترى كثيرا منهم } من أهل الكتاب . { يتولون الذين كفروا } يوالون المشركين بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } أي لبئس شيئا قدموه ليزدادوا عليه يوم القيامة { أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } هو المخصوص بالذم ، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب ، أو علة الذم والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأنه كسبهم السخط والخلود .
استئناف ابتدائي ذُكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دلّ على ذلك قوله : { يَتَولَّوْن الّذين كفروا } ، لأنّه لا يستغرب إلاّ لكونه صادراً ممّن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين . والرؤية في قوله { ترى } بَصريّة ، والخطاب للرّسول . والمراد ب { كثير منهم } كثير من يهود المدينة ، بقرينة قوله { ترى } ، وذلك أنّ كثيراً من اليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقاً ، نظراً لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها ، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عيناً ليهود خَيبر وقُريظة والنضِير . ومعنى { يتولّون } يتّخذونهم أولياء . والمراد بالّذين كفروا مشركو مكّة ومَنْ حَول المدينة من الأعراب الذين بقُوا على الشرك . ومن هؤلاء اليهود كَعْبُ بن الأشرف رئيسُ اليهود فإنّه كان موالياً لأهل مكّة وكان يغريهم بغزو المدينة . وقد تقدّم أنّهم المراد في قوله تعالى : { ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] .
وقوله { أنْ سخط الله عليهم } ( أنْ ) فيه مصدريّة دخلت على الفعل الماضي وهو جائز ، كما في « الكشاف » كقوله تعالى : { ولولا أنْ ثَبَّتْنَاك } [ الإسراء : 74 ] ، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذمّ . والتّقدير : لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سُخْطُ اللّهِ عليهم ، فسُخط الله مذموم . وقد أفاد هذا المخصوص أنّ الله قد غضب عليهم غضباً خاصّاً لموالاتهم الّذين كفروا ، وذلك غير مصرّح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف . ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللّعنة الّتي في قوله : { لُعِن الّذين كفروا من بني إسرائيل } [ المائدة : 78 ] . وكون ذلك ممّا قدّمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا}، يعني من قريش، {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم}، لأنهم ليسوا بأصحاب كتاب، {أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ترى يا محمد كثيرا من بني إسرائيل "يتولون الذين كفروا"، يقول: يتولون المشركين من عبدة الأوثان، يعادون أولياء الله ورسله. "لبِئْسَ ما قَدّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ "يقول تعالى ذكره: أُقْسم لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الاَخرة؛ "أنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ". "وَفي العذابِ همْ خالدونَ" يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة هم خالدون، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا} قيل: قوله: {ترى كثيرا منهم} يعني المنافقين {يتولون الذين كفروا} يعني اليهود {يتولون الذين كفروا} من مشركي العرب وغيرهم؛ كانوا يظاهرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويعاونون عليهم، قد كان من الفريقين جميعا ذلك. ويحتمل وجها آخر: قوله تعالى: {ترى كثيرا منهم} من هؤلاء الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يتولون الذين كفروا} يعني أسلافهم ورؤساءهم كقوله تعالى: {لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} الآية [الآية: 77] تولى هؤلاء أولئك، واتبعوا أهواءهم. وقوله تعالى: {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم} أي ما قدمت أنفسهم سخط الله عليهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فإن قيل: ما الفائدة في إخباره (صلى الله عليه وآله) [بما] يراه وهو عالم به؟ قلنا: عنه جوابان: أحدهما -التوبيخ لصاحبه؛ فيقرعون بما هو من حالهم.
والآخر: التنبيه على باطن أمرهم بما يدل عليه ظاهر حالهم المعلومة فينكشف باطنهم القبيح.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {ترى كثيراً} يحتمل أن يكون رؤية قلب، وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر بإقرارهم على المناكر، دل على ذلك بأمر ظاهر منهم لازم ثابت دائم مقوض لبنيان دينهم، فقال موجهاً بالخطاب لأصدق الناس فراسة وأوفرهم علماً وأثبتهم توسماً وفهماً: {ترى كثيراً منهم} أي من أهل الكتاب؛ ولما كان الإنسان لا ينحاز إلى حزب الشيطان إلا بمنازعة الفطرة الأولى السليمة، أشار إلى ذلك بالتفعل فقال: {يتولون} أي يتبعون بغاية جهدهم {الذين كفروا} أي المشركين مجتهدين في ذلك مواظبين عليه، وليس أحد منهم ينهاهم عن ذلك ولا يقبحه عليهم، مع شهادتهم عليهم بالضلال هم وأسلافهم إلى أن جاء هذا النبي الذي كانوا له في غاية الانتظار وبه في نهاية الاستبشار، وكانوا يدعون الإيمان به ثم خالفوه، فمنهم من استمر على المخالفة ظاهراً وباطناً، ومنهم من ادعى أنه تابع واستمر على المخالفة باطناً، فكانت موالاته للمشركين دليلاً على كذب دعواه ومظهرة لما أضمره من المخالفة وأخفاه.
ولما كان ذلك منهم ميلاً مع الهوى بغير دليل أصلاً قال: {لبئس ما قدمت} أي تقديم النزل للضيف {لهم أنفسهم} أي التي من شأنها الميل مع الهوى، ثم بين المخصوص بالذم -وهو ما قدمتُ- بقوله: {إن سخط الله} أي وقع سخطه بجميع ما له من العظمة {عليهم} ولما كان من وقع السخط عليه يمكن أن يزول عنه، قال مبيناً أن مجرد وقوعه جدير بكل هلاك: {وفي العذاب} أي الكامل من الأدنى في الدنيا والأكبر في الآخرة {هم خالدون}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم ذكر الله تعالى لرسوله حالا من أحوالهم الحاضرة التي هي من آثار تلك السيرة الراسخة، فقال: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ترى أيها الرسول كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركي قومك، ويحرضونهم على قتالك، وأنت تؤمن بالله وبما أنزله على أنبيائهم وتشهد لهم بالرسالة؛ وأولئك المشركون لا يوحدون الله تعالى ولا يؤمنون بكتبه ولا برسله مثلك، فكيف يتولونهم ويحالفونهم عليك لولا اتباع أهوائهم، وسخط الله عليهم؟ {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ} هذا ذم مؤكد بالقسم لعمل اليهود الذي قدمته لهم أنفسهم ليلقوا الله تعالى به في الآخرة، وما هو إلا العمل القبيح الذي أوجب سخط الله عليهم، فالمخصوص بالذم هو ذلك السخط الذي استحقوه، وليس أمامهم ما يجزون به سواه، ولبئس شيئا يقدمه الإنسان لنفسه، فسيجزون به شر الجزاء {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} فهو محيط بهم لا يجدون عنه مصرفا، لأن النجاة من العذاب إنما تكون برضاء الله تعالى، وهم لم يعملوا إلا ما أوجب سخطه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي ذُكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دلّ على ذلك قوله: {يَتَولَّوْن الّذين كفروا}، لأنّه لا يستغرب إلاّ لكونه صادراً ممّن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين. والرؤية في قوله {ترى} بَصريّة، والخطاب للرّسول. والمراد ب {كثير منهم} كثير من يهود المدينة، بقرينة قوله {ترى}، وذلك أنّ كثيراً من اليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقاً، نظراً لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عيناً ليهود خَيبر وقُريظة والنضِير. ومعنى {يتولّون} يتّخذونهم أولياء. والمراد بالّذين كفروا مشركو مكّة ومَنْ حَول المدينة من الأعراب الذين بقُوا على الشرك. ومن هؤلاء اليهود كَعْبُ بن الأشرف رئيسُ اليهود فإنّه كان موالياً لأهل مكّة وكان يغريهم بغزو المدينة. وقد تقدّم أنّهم المراد في قوله تعالى: {ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً} [النساء: 51].
وقوله {أنْ سخط الله عليهم} (أنْ) فيه مصدريّة دخلت على الفعل الماضي وهو جائز، كما في « الكشاف» كقوله تعالى: {ولولا أنْ ثَبَّتْنَاك} [الإسراء: 74]، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذمّ. والتّقدير: لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سُخْطُ اللّهِ عليهم، فسُخط الله مذموم. وقد أفاد هذا المخصوص أنّ الله قد غضب عليهم غضباً خاصّاً لموالاتهم الّذين كفروا، وذلك غير مصرّح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف. ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللّعنة الّتي في قوله: {لُعِن الّذين كفروا من بني إسرائيل} [المائدة: 78]. وكون ذلك ممّا قدّمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق.
ونلحظ الفارق بين أن يخبر الحق رسوله بأمور حدثت من قبل مثل قوله الحق: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم} (من الآية 78 سورة المائدة). وبين الواقع الذي يجري في زمن رسول الله؛ فالخبر الأول هو خبر عن أمر صدر منهم مع من سبق من الرسل، لكن هناك أشياء يا رسول الله أنت تراها بنفسك، وهذا دليل على أن كفرهم لم يكن نزوة وانتهت، لا، بل كفرهم أصبح ملكة فيهم انطبعت عليها نفوسهم.