اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَرَىٰ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ يَتَوَلَّوۡنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِي ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَٰلِدُونَ} (80)

قوله تعالى : { وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ } قيل : مِنَ اليَهُود كَعْبُ بنُ الأشْرَف ، { يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } مُشْرِكي مَكَّةَ حين خَرَجُوا إليهم يجيشون على النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .

وقال ابنُ عبَّاس والحَسَنُ ومُجَاهِد - رضي الله عنهم - : " مِنْهُمْ " يعني المُنَافِقِين يَقُولُون لِلْيَهُود : " لِبِئْسَ ما قدَّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ " {[12392]} ، بِئسَ مَا قَدَّموا من العَملِ لمعَادِهِم في الآخِرَة .

قوله تعالى : { أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } في محلِّه أوجهٌ :

أحدها : أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصُوصِ بالذمِّ ، والمخصوصُ قد حُذِفَ ، وأُقيمَتْ صفتُه مقامه ، فإنك تُعْرِبُ " مَا " اسماً تامّاً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، و { قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } جملةٌ في محلِّ رفع صفةً له ، والتقديرُ : لَبِئْسَ الشيءُ شَيءٌ قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أنْفُسُهمْ ، ف { أنْ سَخِطَ اللَّهُ عليْهِمْ } بدلٌ من " شَيْء " المحذوفِ ، وهذا هو مذهبُ سيبويه{[12393]} ؛ كما تقدَّم تقريرُه .

الثاني : أنه هو المخصوصُ بالذمِّ ، فيكونُ فيه الثلاثةُ أوجه المشهورة :

أحدها : أنه مبتدأٌ ، والجملةُ قبله خبرُه ، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك ، أو لا يحتاج إلى رابط ؛ لأن الجملةَ عينُ المبتدأ .

الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ؛ لأنك لمَّا قلت : " بِئْسَ الرَّجُلُ " قيل لك : مَنْ هو ؟ فقلتَ : فلانٌ ، أي : هُوَ فلانٌ .

الثالث : أنه مبتدأ ، خبرُه محذوفٌ ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، ولم يذكر غيره ، قال : { أن سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ } هو المخصوصُ بالذمِّ ؛ كأنه قيل : لبِئْسَ زادُهُمْ إلى الآخرة سخطُ اللَّهِ تعالى عليْهِمْ ، والمعنى : مُوجِبُ سُخط الله ، قال شهاب الدين{[12394]} : وفي تقدير هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفَى على متأمِّلِهِ ؛ فإنَّ نفسَ السُّخْطِ المضاف إلى الباري تعالى لا يقالُ هو المخصوصُ بالذمِّ ، إنما المخصوصُ بالذمِّ أسبابُه ، وذهبَ إليه أيضاَ الواحديُّ ومكي{[12395]} وأبو البقاء{[12396]} ، إلاَّ أنَّ أبا حيان{[12397]} بعد أنْ حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريِّ قال : " ولَمْ يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهبِ الفرَّاءِ والفارسيِّ في جَعْلِ " مَا " موصولةً ، أو على مذهب من يجعلُ " مَا " تمييزاً ، و " قَدَّمَتْ لَهُمْ " صفتها ، وأمَّا على مذهبِ سيبويه ، فلا يتأتَّى ذلك " ثم ذكر مذهبَ سيبويه .

والوجه الثالث من أوجه " أنْ سَخِطَ " : أنه في محلِّ رفع على البدلِ من " مَا " ، وإلى ذلك ذهب مكي{[12398]} وابنُ عطية{[12399]} ، إلا أن مكِّيًّا حكاه عن غيره ، قال : " وقيل : في موضعِ رفع على البدلِ من " مَا " في " لَبِئْسَ " على أنها معرفةٌ " ، قال أبو حيان{[12400]} - بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيَّة - : " ولا يَصِحُّ هذا ، سواءٌ كانت " مَا " تامَّةً أو موصولةً ؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، و " أنْ سَخِطَ " لا يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً ل " بِئْسَ " ؛ لأنَّ فاعل " بِئْسَ " لا يكونُ أن والفِعْلَ " وهو إيرادٌ واضحٌ كما قاله .

الوجه الرابع : أنه في محلِّ نصْبٍ على البدلِ من " مَا " ، إذا قيل بأنها تمييزٌ ، ذكر ذلك مكي{[12401]} وأبو البقاء{[12402]} ، وهذا لا يجوزُ ألبتة ؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين أن يكون نكرةً ، و " أنْ " وما في حيِّزها عندهم من قبيل أعرف المعارفِ ؛ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ ، وقد تقدم تقريرُ ذلك ، فكيف يَقعُ تمييزاً ؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدَلِ منه ؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ المبدَلِ منه ؛ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّهم لا يجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خُصُوصاً أنْ والفعل .

الخامس : أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوب ب " قَدَّمَتْ " العائدِ على " مَا " الموصولةِ أو الموصوفة ؛ على حسبِ ما تقدَّم ، والتقديرُ : قدَّمَتْهُ سُخْطَ الله ؛ كقولك : " الذي رَأيْتُ زَيْداً أخُوكَ " وفي هذا بحثٌ يذكَرُ في موضعه .

السادس : أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض ؛ إذ التقديرُ : لأنْ سخطَ ، وهذا جارٍ على مذهب سيبويه{[12403]} والفراء{[12404]} ؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّ محل " أنْ " بعد حذْفِ الخافض في محلِّ نصب .

السابع : أنه في محلِّ جرٍّ بذلك الخافضِ المقدَّرِ ، وهذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائيِّ ؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّها في محل جرٍّ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرَّةٍ ، وعلى هذا ، فالمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، أي : لَبِئْسَمَا قدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُمْ عَملُهُمْ أو صُنْعُهُمْ ، ولامُ العلَّةِ المقدَّرة معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ ، أي : سببُ ذَمِّهِمْ سُخْطُ اللَّهِ عليهم ، أو بمحذوفٍ بعده ، أي : لأنْ سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ كَانَ كَيْتَ وكَيْتَ .

و " تَرَى " يجوز أنْ تكونَ مِنْ رؤية البَصَر ، ويكونُ الكثيرُ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكونَ العلميَّةَ ، والكثيرُ على هذا أسلافُهم ، فمعنى " تَرَى " : تَعْلَمُ أخبارَهم وقصَصَهم بإخبارنا إيَّاك ، فعلى الأوَّل يكون قوله " يَتَوَلَّوْن " في محلِّ نصبٍ على الحال ، وعلى الثَّاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني .


[12392]:انظر: تفسير القرطبي (6/160).
[12393]:ينظر: الكتاب 1/476.
[12394]:ينظر: الدر المصون 2/588.
[12395]:ينظر: المشكل 1/242.
[12396]:ينظر: الإملاء 1/223.
[12397]:ينظر: البحر المحيط 3/549.
[12398]:ينظر: المشكل 1/242.
[12399]:ينظر: المحرر الوجيز 2/225.
[12400]:ينظر: البحر المحيط 3/549.
[12401]:ينظر: المشكل 1/242.
[12402]:ينظر: الإملاء 1/223.
[12403]:ينظر: الكتاب 1/171.
[12404]:ينظر: معاني القرآن 1/148، 2/238.