ثم وصف - سبحانه - ذاته بصفات أخرى فقال : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً . . . } .
المهد والمهاد : الفراش المهد المذلل الذى يستقر عليه من جلس فوقه .
أى : الخالق لهذا العالم هو الله العزيز العليم ، الذى جعل لكم الأرض كالفراش الممهد ، حيث بسطها لكم ، وجعلها صالحة لسيركم عليها ، ولإِنبات الزروع فيها .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أى : وجعل لكم فيها طرقا متعددة ، لكى تسلكوها ، فتصلوا من بلد إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } وقوله - تعالى - : { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بيان للحكمة من جعل الأرض كذلك ، أى : جعلها ممهدة كثيرة الطرق ، لعلكم تهتدون إلى ما تريدون الوصول إليه من البلاد ، ومن المنافع المتعددة .
ثم قال : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا } أي : فراشًا قرارًا ثابتة ، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون ، مع أنها مخلوقة على تيار الماء ، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا ، { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا } أي : طرقا بين الجبال والأودية { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : في سيركم من بلد إلى بلد ، وقطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم .
هذه أوصاف فعل ، وهي نعم من الله تعالى على البشر ، تقوم بها الحجة على كل كافر مشرك بالله تعالى .
وقوله : { الذي جعل لكم } ليس من قول المسؤولين ، بل هو ابتداء إخبار من الله تعالى .
وقرأ جمهور الناس : «مهاداً » وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش : «مهداً » ، والمعنى واحد ، أي يتمهد ويتصرف فيها .
والسبل : الطرق . و : { تهتدون } معناه في المقاصد من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر ، ويحتمل أن يريد : { تهتدون } بالنظر والاعتبار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم دل على نفسه بصنعه ليوحد، فقال: {الذي جعل لكم الأرض مهدا}، يعني فرشا.
{وجعل لكم فيها سبلا}، يعني طرقا تسلكونها.
{لعلكم تهتدون}، يقول لكي تعرفوا طرقها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدا" يقول: الذي مهّد لكم الأرض، فجعلها لكم وطاء توطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم.
"وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً" يقول: وسهّل لكم فيها طرقا تتطرّقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم...
"لَعَلّكُمْ تَهْتَدُون" يقول: لكي تهتدوا بتلك السبل إلى حيث أردتم من البُلدان والقُرى والأمصار، لولا ذلك لم تطيقوا براح أفنيتكم ودوركم، ولكنها نعمة أنعم بها عليكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جائز أن يكون ذكر هذا على سبيل النّعت والوصف لله تعالى عز وجل صلة لقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} الذي وصفه أنه جعل الأرض كذا، وأنزل كذا.
ويحتمل أن يكون أراد بقوله: {ولئن سألتهم} عن الأرض وما ذكر به مِن جعلها مهدا ومن جعله لهم فيها سُبلا قالوا: الله جعل ذلك على ما قالوا في السماوات والأرض.
والثاني: دلالة حكمته ليدُلّهم أنه إنما جعل لهم ما ذكر لحكمته، ولم يجعلها عبثا باطلا فيُلزمهم الشكر حين فرّق حوائجهم في أمكنة متباعدة، ثمّ مكّن لهم الوصول إليها، ليعلموا أن الذي ملك أنفسهم، هو مالك أطراف الأرض؛ إذ لو كان هذا غير مالك ذلك؛ لمنعهم عن الوصول إلى حوائجهم.
والثالث: دلالة قدرته حين جعل لهم في الأرض ما ذكر من التسخير لهم حتى يتظاهروا فيها، ويفترشونها ويسلكوا فيها السبل التي جعلها لهم إلى حيث أرادوها وقصدوها، ومكّن لهم ليعلموا أن من قدر على ما ذكر لا يُعجزه شيء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل: معناه لتهتدوا إلى الحق في الدين والاعتبار الذي جعل لكم بالنظر فيها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
حقيقة جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب -لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا- والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان...
(لعلكم تهتدون).. فإن تدبر هذا الكون، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
في تيسير وسائل السير في الأرض لطف عظيم؛ لأن به تيسير التجمع والتعارف واجتلاب المنافع والاستعانة على دفع الغوائل والأضرار والسيرُ في الأرض قريباً أو بعيداً من أكبر مظاهر المدنِيَّة الإنسانية؛ ولأن الله جعل في الأرض معايش النّاس من النبات والثمر وورق الشجر والكمأة والفقع وهي وسائل العيش فهي سبل مجازية. والاهتداء: مطاوع هداه فاهتدى. والهداية حقيقتها: الدلالة على المكان المقصود، ومنه سمي الدال على الطرائق هادياً، وتطلق على تعريف الحقائق المطلوبة ومنه
{إنّا أنزلنا التوراة فيها هُدىً ونورٌ} [المائدة: 44].
والمقصود هنا المعنى الثاني، أي رجاء حصول علمكم بوحدانية الله وبما يجب له، ومعنى الرجاء المستفاد من (لعل) استعارة تمثيلية تبعية، مُثِّل حال من كانت وسائل الشيء حاضرة لديه بحال من يُرجى لحصول المتوسل إليه...
... الحق سبحانه حين يمتنُّ عليهم ببعض نِعَمه عليهم إنما ليُرقِّق قلوبهم ويستميلهم إلى ساحته، لعلهم يهتدون إليه ويؤمنون به ويُصدِّقون برسوله.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.