ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعم الله - سبحانه - على بنى إسرائيل ، وعن موقفهم منها ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسك بالشريعة التي أنزلها الله - سبحانه - عليه . . فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ . . . وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
والمراد بإسرائيل : يعقوب عليه السلام - وببنيه : ذريته من بعده . والمراد بالكتاب : التوراة - أو جنس الكتاب فيشمل التوراة والإِنجيل والزبور .
أي : والله لقد أعطينا بنى إسرائيل { الكتاب } ليكون هداية لهم ، وآتيناهم - أيضا - { والحكم } أي : الفقه والفهم للأحكام حتى يتمكنوا من القضاء بين الناس ، وأعطيناهم كذلك { النبوة } بأن جعلنا عددا كبيرا من الأنبياء فيهم ومنهم .
وهكذا منحهم - سبحانه - نعما عظمى تتعلق بدينهم ، أما النعم التي تتعلق بدنياهم فقد بينها - سبحانه - في قوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } أي : ورزقناهم من المطاعم والمشارب الطيبات التي جعلناها حلالا لهم .
وقوله : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين } بيان لنعمة أخرى . وللمفسرين في معنى هذه الجملة اتجاهان : أحدهما : أن المقصود بها فضلناهم على العالمين بأمور معينة حيث جعلنا عددا من الأنبياء منهم ، وأنزلنا المن والسلوى عليهم .
قال الآلوسي : قوله : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين } حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، ونظائرهما ، فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه ، لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عليهم من وجه آخر ، ومن جهة المرتبة والثواب .
والثاني : أن المقصود بها : فضلناهم على عالمي زمانهم .
قال الإِمام الرازي ، ما ملخصه : فإن قيل إن تفضيلهم على العالمين ، يقتضي تفضيلهم على أمة - محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا باطل ، فكيف الجواب ؟
قلنا : الجواب من وجه أقربها إلى الصواب أن المراد : فضلتكم على عالمي زمانكم ، وذلك لأن الشخص الذى سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود ، لم يكن من جملة العالمين حال عدمه ، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودة في ذلك الوقت ، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت ، أنهم أفضل من الأمة الإِسلامية .
وقال الشيخ الشنقيطي ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين } .
ذكر - سبحانه - في هذه الآية أنه فضل بني إسرائيل على العالمين ، كما ذكر ذلك في آيات أخرى . . ولكن الله - تعالى - بين أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من بني إسرائيل ، وأكرم على الله ، كما صرح بذلك في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } فخير صيغة تفضيل ، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم ، بني إسرائيل وغيرهم .
ويؤيد ذلك من حديث معاوية بن حيدة القشيري ، " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أمته : أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله " ، وقد رواه عنه الإِمام أحمد والترمذى وابن ماجه والحاكم وهو حديث مشهور .
واعلم أن ما ذكرنا من كون الأمة الإِسلامية أفضل من بني إسرائيل وغيرهم لا يعارض ما ورد من آيات في تفضيل بني إسرائيل .
لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ، ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعلوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل على غيره ، أو يفضل غيره عليه .
ولكنه - تعالى - بعد وجود الأمة الإِسلامية صرح بأنها خير الأمم ، فثبت أن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل ، إنما يراد به ذكر أحوال سابقة .
وهذا الاتجاه الثاني هو الذي نرجحه ، لأن المقصود بالآية الكريمة وأمثالها تذكير بني إسرائيل المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنعم الله عليهم وعلى آبائهم ، حتى يشكروه عليها .
ومن مظاهر هذا الشكر - بل على رأسه - إيمانهم بما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولكن بني إسرائيل لم يقابوا تلك النعم بالشكر ، بل قابلوا بالجحود والحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله - تعالى - من فضله ، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله وغضب عليهم ، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .
ولقد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - في سورة البقرة : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } والعبرة التي نستخلصها من هذه الآية وأمثالها : أن الله - تعالى - فضل بني إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإِسلامية ، ومنحهم الكثير من النعم ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر . . فسلب الله عنهم ما حباهم به من نعم . ووصفهم فى كتابه بنقض العهد ، وقسوة القلب .
وهذا مصير كل أمة بدلت نعمة الله كفرا ، لأن الميزان عند الله للتقوى والفعل الصالح ، وليس للجنس أو اللون أو النسب .
يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم ، وجعله الملك فيهم ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : من المآكل والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : في زمانهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ آتَيْنا يا محمد بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ يعني التوراة والإنجيل ، والحُكْمَ يعني الفهم بالكتاب ، والعلم بالسنن التي لم تنزل في الكتاب ، وَالنّبُوّةَ يقول : وجعلنا منهم أنبياء ورسُلاً إلى الخلق ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ يقول : وأطعمناهم من طيبات أرزاقنا ، وذلك ما أطعمهم من المنّ والسلوى وَفَضّلْناهُمْ على العالَمِينَ يقول : وفضلناهم على عالمي أهل زمانهم في أيام فرعون وعهده في ناحيتهم بمصر والشأم .
و { الكتاب } في قوله : { آتينا بني إسرائيل الكتاب } هو التوراة . { والحكم } هو السنة والفقه ، فيقال إنه لم يتسع فقه الأحكام على لسان نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام : { والنبوءة } هي ما تكرر فيهم من الأنبياء .
وقوله تعالى : { ورزقناهم من الطيبات } يعني المستلذات الحلال ، وبهذين تتم النعمة ويحسن تعديدها ، وهذه إشارة إلى المن والسلوى ، وطيبات الشام بعد ، إذ هي الأرض المباركة ، وقد تقدم القول في معنى { الطيبات } ، وتلخيص قول مالك والشافعي في ذلك .
وقوله تعالى : { على العالمين } يريد على عالم زمانهم . والبينات من الأمر : هو الوحي الذي فصلت لهم به الأمور .