ثم حكى - سبحانه - ما جرى لقوم نوح - عليه السلام - وبين جانبا من مننه ونعمه على المخاطبين ، فقال : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية .
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }
وقوله : { طَغَا } من الطغيان وهو مجاوزة الحد فى كل شئ ، والجارية صفة لموصوف محذوف .
أى : اذكروا - أيها الناس - لتعتبروا وتتعظوا ، ما جرى للكافرين من قوم نوح - عليه السلام - فإنهم حين أصروا على كفرهم ، أغرقناهم بالطوفان ، وحين علا الماء واشتد فى ارتفاعه اشتداداً خارقاً للعادة . . حملنا آباءكم الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - فى السفينة الجارية ، التى صنعها نوح بأمرنا . وحفظناهم - بفضلنا ورحمتنا - فى تلك السفينة إلى أن انتهى الطوفان .
وقد فعلنا ذلك { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } أى : لنجعل لكم هذه النعمة وهى إنجاؤكم وإنجاء آبائكم من الغرق - عبرة وعظة وتذكيرا بنعم الله - تعالى - عليكم .
وهذه النعمة والمنة { وَتَعِيَهَآ } وتحفظها { أُذُنٌ وَاعِيَة } أى : أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه ، وتعى ما يجب وعيه .
فقوله : { وَاعِيَة } من الوعى بمعنى الحفظ للشئ فى القلب . يقال : وعى فلان الشئ يعيه إذا حفظه أكمل حفظ .
وقال - سبحانه - { حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } مع أن الحمل كان للآباء الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - لأن فى نجاة الآباء ، نجاة للأبناء ، ولأنه لو هلك الآباء لما وجد الأبناء .
قال صاحب الكشاف قوله : { حَمَلْنَاكُمْ } أى : حملنا آباءكم ، فى الجارية ، أى : فى السفينة الجارية ، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين ، كان حمل آبائهم منة عليهم ، وكأنهم هم المحمولون ، لأن نجاتهم سبب ولادتهم .
{ لِنَجْعَلَهَا } الضمير للفعلة : وهى نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة { تَذْكِرَةً } عبرة وعظة . { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } من شأنها أن تعى وتحفظ ما يجب حفظه ووعيه ، ولا تضيعه بترك العمل .
فإن قلت : لم قيل : أذن واعية على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإِيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعى منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله ، فهى السواد الأعظم عند الله ، وأن ما سواها لا يبالى بهم ، وإن ملأوا الخافقين . .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بأهوال يوم القيامة بأبلغ أسلوب ، وبينت ما حل بالمكذبين بطريقة تبعث الخوف والوجل فى القلوب .
ثم قال الله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ } أي : زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود . وقال ابن عباس وغيره : { طَغَى الْمَاءُ } كثر - وذلك بسبب دعوة نوح ، عليه السلام ، على قومه حين كذبوه وخالفوه ، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة ، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، عن أبي سنان سعيد بن سنان ، عن غير واحد ، عن علي بن أبي طالب قال : لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك ، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان ، فطغى الماء على الخزان فخرج ، فذلك قول الله : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك ، إلا يوم عاد ، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت ، فذلك قوله : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } عتت على الخزان{[29268]} .
ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } وهي السفينة الجارية على وجه الماء ،
وقوله : إنّا لَمّا طَغَى المَاءُ حَمَلْناكُمْ فِي الجارِيَةِ يقول تعالى ذكره : إنا لما كثر الماء فتجاوز حدّه المعروف ، كان له ، وذلك زمن الطوفان .
وقيل : إنه زاد فعلاً فوق كلّ شيء بقدر خمس عشرة ذراعا . ذكر من قال ذلك ، ومن قال في قوله : طَغَى مثل قولنا :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إنّا لَمّا طَغَى المَاءُ قال : بلغنا أنه طغى فوق كلّ شيء خمس عشرة ذراعا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا لَمّا طَغَى المَاءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَةِ ذاكم زمن نوح طغى الماء على كلّ خمس عشرة ذراعا بقدر كل شيء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُميّ ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : إنّا لَمّا طَغَى المَاءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَةِ قال : لم تنزل من السماء قطرة إلا بعلم الخزّان ، إلا حيث طغى الماء ، فإنه قد غضب لغضب الله ، فطغى على الخزان ، فخرج ما لا يعلمون ما هو .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا لَمّا طَغَى المَاءُ حَمَلْناكُمْ فِي الجارِيَةِ إنما يقول : لما كثر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إنّا لَمّا طَغَى المَاءُ يعني كثر الماء ليالي غرّق الله قوم نوح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّا لمّا طَغَى المَاءُ حَمَلْناكُم قال محمد ابن عمرو في حديثه : طما وقال الحارث : ظهر .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، عن الضحاك ، في قوله : لَمّا طَغَى المَاءُ : كثر وارتفع .
وقوله : حَمَلْناكُمْ فِي الجارِيَةِ يقول : حملناكم في السفينة التي تجري في الماء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : حَمَلْناكُمْ فِي الجارِيَةِ الجارية : السفينة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : حَمَلْناكُمْ فِي الجارِيَةِ والجارية : سفينة نوح التي حملتم فيها .
وقيل : حملناكم ، فخاطب الذين نزل فيهم القرآن ، وإنما حمل أجدادهم نوحا وولده ، لأن الذين خوطبوا بذلك ولد الذين حملوا في الجارية ، فكان حمل الذين حملوا فيها من الأجداد حملاً لذرّيتهم على ما قد بيّنا من نظائر ذلك في أماكن كثيرة من كتابنا هذا .
إِنَّ قوله تعالى : { ومَن قبله } [ الحاقة : 9 ] لما شمل قومَ نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حَسَّن اقتضاب التذكير بأخذهم لِمَا فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عِظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة ، وهذا من قبيل الإِدماج .
وقد بُني على شهرة مُهلك قوم نوح اعتبارُه كالمذكور في الكلام فجعل شرطاً ل { لمَّا } في قوله : { إنا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية } ، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان .
والطغيان : مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيهاً لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي .
و { الجارية } : صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى : { وله الجواري المنشآت في البحر } [ الرحمن : 24 ] .
وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله ، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة .
وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى : { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين } الآية [ المؤمنون : 27 ] .