ثم نعى - سبحانه - على الكفار غفلتهم وعدم تفكرهم فقال : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } .
و " أم " هنا بمعنى بل والهمزة ، والاستفهام للإِنكار ، والمراد بالشفعاء تلك الأصنام التى زعموا أنها ستشفع لهم يوم القيامة .
والمعنى : لقد ترك هؤلاء المشركون التفكر والتدبر فى دلائل وحدانيته وقدرته - سبحانه - ولم يلتفتوا إلى ما ينفعهم ، بل اتخذوا الأصنام آلهة لينالوا بواسطتها الشفاعة عند الله .
قل لهم - أيها الرسول الكريم - مرشدا ومنبها : أتفعلون ذلك ولو كانت هذه الآلهة لا تملك شيئا من أمرها ، ولا تعقل شيئا مما يتوجهون به إليها ؟
إنهم هكذا في قبضة الله دائما . وهو الوكيل عليهم . ولست عليهم بوكيل . وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها . وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين . . فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص ?
أم اتخذوا من دون الله شفعاء ? قل : أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? قل : لله الشفاعة جميعاً . له ملك السماوات والأرض ، ثم إليه ترجعون . .
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى ! ( أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? ) . .
يقول تعالى ذاما للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله ، وهم الأصنام والأنداد ، التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان حداهم على ذلك ، وهي لا تملك شيئا من الأمر ، بل وليس لها عقل تعقل به ، ولا سمع تسمع به ، ولا بصر تبصر به ، بل هي جمادات أسوأ حالا من الحيوان بكثير{[25150]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم . وقوله : قُلْ أوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئا وَلا يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهم : أتتخذون هذه الاَلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ، ولا يعقلون شيئا ، قل لهم : إن تكونوا تعبدونها لذلك ، وتشفع لكم عند الله ، فأخلصوا عبادتكم لله ، وأفردوه بالألوهة ، فإن الشفاعة جميعا له ، لا يشفع عنده إلا من أذن له ، ورضي له قولاً ، وأنتم متى أخلصتم له العبادة ، فدعوتموه ، وشفعكم لهُ ملكُ السمواتِ والأرض ، يقول : له سلطان السموات والأرض ومُلكها ، وما تعبدون أيها المشركون من دونه له يقول : فاعبدوا الملك لا المملوك الذي لا يملك شيئا . ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول : ثم إلى الله مصيركم ، وهو معاقبكم على إشراككم به ، إن متم على شرككم .
ومعنى الكلام : لله الشفاعة جميعا ، له مُلك السموات والأرض ، فاعبدوا المالك الذي له مُلك السموات والأرض ، الذي يقدر على نفعكم في الدنيا ، وعلى ضرّكم فيها ، وعند مرجعكم إليه بعد مماتكم ، فإنكم إليه ترجعون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أمِ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعاء الاَلهة قُلْ أوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئا الشفاعة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قُلْ لِلّهِ الشّفاعَةُ جَمِيعا قال : لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه .
{ أم } منقطعة وهي للاضراب الانتقالي انتقالاً من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم ، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء تمحّلوا تأويلاً لشركهم فقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى } [ الزمر : 3 ] كما حكي عنهم في أول هذه السورة ، فلما استُوفيَت الحججُ على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم . والاستفهام الذي تشعر به أم } في جميع مواقعها هو هنا للإِنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكَر كما كان المعتذَر عنه منكراً فلم يقضوا بهذه المعذرة وطَراً . وقد تقدم في أول السورة بيان مرادهم بكونهم شفعاء .
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم مقالةً تقطع بهتانهم وهي { أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون .
فالواو في { أو لو كانوا } عاطفة كلام المجيب على كلامهم وهو من قبيل ما سُمّي بعطف التلقين في قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة البقرة ( 124 ) ، ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره . وتقدم في قوله : { ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) . وصاحب الحال مقدر دل عليه ما قبله من قوله : اتخذوا من دون الله شفعاء . } والتقدير : أيشفعون لو كانوا لا يملكون شيئاً . والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف .
وأفاد تنكير { شيئاً } في سياق النفي عموم كل ما يُملك فيدخل في عمومه جميع أنواع الشفاعة . ولما كانت الشفاعة أمراً معنوياً كان معنى ملكها تحصيل إجابتها ، والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل فإنه لعدم عقله لا يتصور خطور معنى الشفاعة عنده فضلاً عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.