قوله تعالى : { أم أمنتم أن يعيدكم فيه } يعني في البحر ، { تارةً } مرة ، { أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح } ، قال ابن عباس : أي : عاصفاً وهي الريح الشديدة . وقال أبو عبيدة : هي الريح التي تقصف كل شيء ، أي تدقه وتحطمه . وقال القتيبي : هي التي تقصف الشجر ، أي تكسره . { فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً } ، ناصراً ولا ثائراً ، و تبيع بمعنى تابع ، أي تابعاً مطالباً بالثأر . وقيل : من يتبعنا بالإنكار . قرأ ابن كثير و أبو عمرو أن نخسف ، ونرسل ، ونعيدكم ، فنرسل ، فنغرقكم ، بالنون فيهن ، لقوله علينا . وقرأ الآخرون بالياء لقوله : إلا إياه ، وقرأ أبو جعفر و يعقوب { فيغرقكم } بالتاء يعني : الريح .
ثم ساق - سبحانه - مثالاً آخر للدلالة على شمول قدرته ، فقال - تعالى - : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } .
و { أم } هنا يجوز أن تكون متصلة ؛ بمعنى : أى الأمرين حاصل . ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى : بل .
والقاصف من الريح : هو الريح العاتية الشديدة التى تقصف وتحطم كل ما مرت به من أشجار وغيرها . يقال : فصف فلان الشئ ، إذا كسره .
والتبيع : فعيل بمعنى فاعل ، وهو المطالب غيره بحق سواء أكان هذا الحق دينا أم ثأرًا أم غيرهما ، مع مداومته على هذا الطلب .
والمعنى : بل أأمنتم - أيها الناس - { أن يعيدكم } الله - تعالى - { فيه } أى : فى البحر ، لسبب من الأسباب التى تحملكم على العودة إليه مرة أخرى { فيرسل عليكم } - سبحانه - وأنتم فى البحر { قَاصِفاً مِّنَ الريح } العاتية الشديدة التى تحطم سفنكم { فيغركم } بسبب كفركم وجحودكم لنعمه ، { أَمْثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } أى : إننا من السهل علينا أن نفعل معكم ذلك وأكثر منه ، ثم لا تجدوا لكم أحدًا ينصركم علينا ، أو يطالبنا بحق لكم علينا ، فنحن لا نسأل عما نفعل ، وأنتم المسئولون
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة ، تقصف الصواري وتحطم السفين ، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم ، فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم ?
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا . ثم يأمنوا أخذه وكيده . وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة . كأنها آخر شدة يمكن أن ياخذهم بها الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىَ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } .
يقول تعالى ذكره : أم أمنتم أيها القوم من ربكم ، وقد كفرتم به بعد إنعامه عليكم ، النعمة التي قد علمتم أن يعيدكم في البحر تارة أخرى : يقول : مرّة أخرى ، والهاء التي في قوله «فيه » من ذكر البحر . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنْ يُعيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرَى : أي في البحر مرّة أخرى فَيُرْسلَ عَلَيْكُمْ قاصِفا مِنَ الرّيحِ وهي التي تقصف ما مرّت به فتحطمه وتدقه ، من قولهم : قصف فلان ظهر فلان : إذا كسره فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرتُمْ يقول : فيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بما كفرتم ، يقول : بكفركم به ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا يقول : ثم لا تجدوا لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم ، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم . وقيل : تبيعا في موضع التابع ، كما قيل : عليم فيموضع عالم . والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين أو غيره : تبيع . ومنه قول الشاعر :
عَدَوْا وَعَدَتْ غِزْلانُهُمْ فَكأنّهَا *** ضَوَامنُ غُرْمٍ لَزّهُنّ تَبِيعُ
وبنحو الذي قلنا في القاصف والتبيع ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِنَ الرّيحِ يقول : عاصفا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قاصفا التي تُغْرق .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا يقول نصيرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال محمد : ثائرا ، وقال الحرث : نصيرا ثائرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا قال : ثائرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا أي لا نخاف أن نتبع بشيء من ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا يقول : لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك . والتارة : جمعه تارات وتير ، وأفعلت منه : أترت .
( أم ) عاطفة الاستفهام ، وهي للإضراب الانتقالي ، أي بل أأمنتم ، فالاستفهام مقدر مع ( أم ) لأنها خاصة به ، أي أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح .
والتارة : المرة المتكررة ، قيل عينه همزة ثم خففت لكثرة الاستعمال . وقيل : هي واو . والأول أظهر لوجوده مهموزاً وهم لا يهمزون حرف العلة في اللغة الفصحى ، وأما تخفيف المهموز فكثير مثل : فأس وفاس ، وكأس وكاس .
ومعنى { أن يعيدكم } أن يُوجد فيكم الدواعي إلى العود تهيئة لإغراقكم وإرادة للانتقام منكم ، كما يدل عليه السياق وتفريعُ { فيرسل } عليه .
والقاصف : التي تقصف ، أي تكسر . وأصل القصف : الكسر . وغلب وصف الريح به . فعومل معاملة الصفات المختصة بالمؤنث فلم يلحقوه علامة التأنيث ، مثل { عاصف } في قوله : { جاءتها ريح عاصف } في سورة [ يونس : 22 ] . والمعنى : فيرسل عليكم ريحاً قاصفاً ، أي تقصف الفلك ، أي تعطبه بحيث يغرق ، ولذلك قال : { فيغرقكم } .
قرأ الجمهور { من الريح } بالإفراد . وقرأ أبو جعفر { من الرياح } بصيغة الجمع .
والباء في { بما كفرتم } للسببية . و ( ما ) مصدرية ، أي بكفركم ، أي شرككم .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي كشأنها في عطفها الجمل . وهو ارتقاء في التهديد بعدم وجود مُنقذ لهم ، بعد تهديدهم بالغرق لأن الغريق قد يجدُ منقذاً .
والتبيع : مبالغة في التابع ، أي المتتبع غيره المطالب لاقتضاء شيء منه . أي لا تجدوا من يسعى إليه ولا من يطالب لكم بثأر .
ووصف ( تبيع ) يناسب حال الضر الذي يلحقهم في البحر ، لأن البحر لا يصل إليه رجال قبيلة القوم وأولياؤهم ، فلو راموا الثأر لهم لركبوا البحر ليتابعوا آثار من ألحق بهم ضراً . فلذلك قيل هنا { تبيعا } وقيل في التي قبلها { وكيلاً } كما تقدم .
وضمير { به } عائد إما إلى الإغراق المفهوم من { يغرقكم } ، وإما إلى المذكور من إرسال القاصف وغيره .
وقرأ الجمهور ألفاظ { يخسف } و { يرسل } و { يعيدكم } و { فيرسل } و { فيغرقكم } خمسُتها بالياء التحتية . وقرأها ابن كثير وأبو عمرو بنون العظمة على الالتفات من ضمير الغيبة الذي في قوله : { فلما نجاكم إلى البر } إلى ضمير التكلم . وقرأ أبو جعفر ورويس عن يعقوب { فتغرقكم } بمثناة فوقية . والضمير عائد إلى { الريح } على اعتبار التأنيث ، أو { على الرياح } على قراءة أبي جعفر .