اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ أَمِنتُمۡ أَن يُعِيدَكُمۡ فِيهِ تَارَةً أُخۡرَىٰ فَيُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ قَاصِفٗا مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغۡرِقَكُم بِمَا كَفَرۡتُمۡ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ عَلَيۡنَا بِهِۦ تَبِيعٗا} (69)

قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ } : يجوز أن تكون المتصلة ، أي : أيُّ الأمرين كائن ؟ ويجوز أن تكون المنقطعة ، و " أن يعيدكم " مفعول به .

قوله " تَارةً " بمعنى مرَّة ، وكرَّة ، فهي مصدرٌ ، ويجمع على تيرٍ وتاراتٍ ، قال الشاعر : [ الطويل ]

وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارةً فَيَبْدُو ، وتَاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ{[20566]}

وألفها تحتمل أن تكون عن واوٍ أو ياءٍ ، وقال الراغب : " وهو فيما قيل : [ مِنْ ] تار الجرحُ : التأمَ " .

قوله تعالى : " قَاصِفاً " القاصِفُ يحتمل أن يكون من " قَصَفَ " متعدِّياً ، يقال : قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً ؛ قال أبو تمَّام : [ البسيط ]

إنَّ الرِّياحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ *** عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ{[20567]}

فالمعنى : أنها لا تلفي شيئاً إلا قصفته ، وكسرته .

والثاني : أن يكون من " قَصِفَ " قاصراً ، أي : صار له قصيفٌ ، يقال : قَصِفتِ الرِّيحُ ، تقصفُ ، أي : صوَّتتْ ، و " مِنَ الرِّيحِ " نعتٌ .

قوله تعالى : { بِمَا كَفَرْتُمْ } يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى " الذي " والباء للسببية ، أي : بسبب كفركم ، أو بسبب الذي كفرتم به ، ثم اتُّسعَ فيه ، فحذفت الباءُ ، فوصل الفعل إلى الضمير ، وإنَّما احتيج إلى ذلك ؛ لاختلافِ المتعلق .

وقرأ أبو جعفرٍ ، ومجاهدٌ{[20568]} : " فتُغْرِقَكُم " بالتاء من فوق أسند الفعل لضمير الرِّيح ، وفي كتاب أبي حيَّان : " فتُغْرِقَكُمْ " بتاء الخطاب مسنداً إلى " الرِّيح " والحسن وأبو رجاء بياء الغيبة ، وفتح الغين ، وتشديد الراء ، عدَّاه بالتضعيف ، والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلاَّ أنه بتاء الخطاب . قال شهاب الدين : هو إمَّا سهوٌ ، وإمَّا تصحيفٌ من النساخ عليه ؛ كيف يستقيم أن يقول بتاءِ الخطاب ، وهو مسندٌ إلى ضمير الرِّيحِ ، وكأنه أراد بتاء التأنيث ، فسبقه قلمه أو صحَّف عليه غيره .

وقرأ العامة " الرِّيحِ " بالإفراد ، وأبو جعفرٍ{[20569]} : " الرِّياح " بالجمع .

قوله : " به تَبِيعاً " يجوز في " بِهِ " أن يتعلَّق ب " تَجِدُوا " وأن يتعلق ب " تَبِيعاً " ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من " تبيعًا " والتَّبِيعُ : المطالب بحقِّ الملازمُ ، قال الشَّماخ : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . كمَا لاذَ *** الغَريمُ مِنَ التَّبيعِ{[20570]}

وقال آخر : [ الطويل ]

غَدَوْا وغَدتْ غِزلانُهمْ فَكأنَّهَا *** ضَوَامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهُنَّ تَبِيعُ{[20571]}

فصل

ومعنى الآية { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } ، يعني في البحر { تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً } .

قال ابن عباس - رضي الله عنه- : أي عاصفاً ، وهي الرِّيح الشديدة{[20572]} وقال أبو عبيدة : هي الرِّيح التي تقصف كلَّ شيءٍ ، أي : تدقٌّه وتحطمه { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } ناصراً ولا ثائراً ، وتبيع بمعنى تابعٍ ، أن تابعاً مطالباً بالثَّأر .

وقال الزجاج - رضي الله عنه - : من يتبعنا بإنكارِ ما نزل بكم ، ولا من يتتبّعنا بأن نصرفه عنكم .


[20566]:البيت لذي الرمة: ينظر: ديوانه ص 460، خزانة الأدب 2/192، الدرر 2/17، المقاصد النحوية 1/578، 4/449، ولكثير في المحتسب 1/150، الأشباه والنظائر 3/103، 7/257، وأوضح المسالك 3/362، تذكرة النحاة ص 668، شرح الأشموني 1/92، مجالس ثعلب ص 612، مغني اللبيب 2/501، المقرب 1/83، همع الهوامع 1/98، الدر المصون 4/407.
[20567]:ينظر البيت في البحر المحيط 6/44، الدر المصون 4/407.
[20568]:ينظر : الحجة 406، والنشر 2/308، والإتحاف 2/202، والحجة للقراء السبعة 5/111، والقرطبي 10/190، والبحر 6/58، والدر المصون 4/407، والوسيط 3/117.
[20569]:ينظر: الإتحاف 2/202، والنشر 2/223، والقرطبي 10/190 والدر المصون 4/408.
[20570]:عجز بيت وصدره: تلوذ تعالب الشرقين منها ينظر: ديوانه 237، البحر 6/58، اللسان "تبع" ، الدر المصون 4/408.
[20571]:ينظر البيت في تفسير الطبري 15/85، البحر 6/58، الدر المصون 4/408.
[20572]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/114) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/349) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.