{ إنه فكر وقدر } الآيات ، ذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } إلى قوله : { المصير }( غافر : 1-2 ) قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته القرآن أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلهم ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال له الوليد : مالي أراك حزيناً يا ابن أخي ؟ قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد ، فقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال لهم : تزعمون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ قالوا : لا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة ، من صدقه- فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه ؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر ، فذلك قوله عز وجل : { إنه فكر } في محمد والقرآن ، { وقدر } في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن .
ثم صور - سبحانه - حال هذا الشقى تصويرا بديعا يثير السخرية منه ومن تفكيره فقال : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } أى : إن هذا الشقى ردد فكره وأدراه فى ذهنه ، وقدَّر وهيأ فى نفسه كلاما شنيعا يقوله فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفى حق القرآن الكريم .
يقال : قدَّر فلان الشئ فى نفسه ، إذا هيأه وأعده . .
والجملة الكريمة تعليل للوعيد والزجر ، وتقرير لاستحقاقه له ، أو بيان لمظاهر عناده . .
ثم يرسم تلك الصورة المبدعة المثيرة للسخرية والرجل يكد ذهنه ! ويعصر أعصابه ! ويقبض جبينه ! وتكلح ملامحه وقسماته . . كل ذلك ليجد عيبا يعيب به هذا القرآن ، وليجد قولا يقوله فيه :
( إنه فكر وقدر . فقتل ! كيف قدر ? ثم قتل ! كيف قدر ? ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر ) . .
لمحة لمحة . وخطرة خطرة . وحركة حركة . يرسمها التعبير ، كما لو كانت ريشة تصور ، لا كلمات تعبر ، بل كما لو كانت فيلما متحركا يلتقط المشهد لمحة لمحة ! ! !
لقطة وهو يفكر ويدبر ومعها دعوة هي قضاء( فقتل ! )واستنكار كله استهزاء ( كيف قدر ? )ثم تكرار الدعوة والاستنكار لزيادة الإيحاء بالتكرار .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ * ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ * ثُمّ نَظَرَ * ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هََذَآ إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هََذَآ إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ } .
يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي خلقته وحيدا ، فكّر فيما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وقدّر فيما يقول فيه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ يقول : ثم لعن كيف قدّر النازل فيه ثُمّ نَظَرَ يقول : ثم روّي في ذلك ثُمّ عَبَس يقول : ثم قبض ما بين عينيه وَبَسَرَ يقول : كلح وجهه ومنه قول توبة بن الحُمَيّر :
وَقَدْ رَابَنِي مِنْها صُدُودٌ رأيتُهُ *** وإعْراضُها عَنْ حاجَتِي وبُسُورُها
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الأخبار عن الوحيد أنه فعل . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر عن عباد بن منصور ، عن عكرِمة ، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ، قال : لِمَ ؟ قال : يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنّك مُنكر لما قال ، وأنك كاره له قال : فما أقول فيه ، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه مني ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر فيه فلما فكّر قال : هذا سحر يأثره عن غيره ، فنزلت ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا . قال قتادة : خرج من بطن أمه وحيدا ، فنزلت هذه الاَية حتى بلغ تسعة عشر .
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ . . . إلى ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قُحافة رضي الله عنه يسأله عن القرآن فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فوالله ما هو بشعر ، ولا بسحر ، ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا : والله لئن صبأ الوليد لتصبأن قريش ، فلما سمع بذلك أبو جعل قال : أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه بيته ، فقال للوليد : ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ قال : ألستُ أكثرهم مالاً وولدا ؟ فقال له أبو جهل : يتحدّثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قُحافة لتصيب من طعامه قال الوليد : أقد تحدثت به عشيرتي فلا يقصر عن سائر بني قُصيّ لا أقرب أبا بكر ولا عمر ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : ذَرْنِي وَمَن خَلَقْتُ وَحِيدا . . . إلى لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّهُ فَكّرَ وقدّر زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل ، فإذا هو ليس له بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وما أشكّ أنه سحر ، فأنزل الله فيه : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ . . . الاَية ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ : قبض ما بين عينيه وكلح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَكّرَ وَقَدّرَ قال : الوليد بن المغيرة يوم دار الندوة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ذَرْنِي وَمَن خَلَقْتُ وَحِيدّا يعني الوليد بن المغيرة دعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقال : حتى أنظر ، ففكر ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمّ أدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقالَ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ فجعل الله له سقر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُودا . . . إلى قوله : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ قال : هذا الوليد بن المغيرة قال : سأبتار لكم هذا الرجل الليلة ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجده قائما يصلي ويقتريء ، وأتاهم فقالوا : مَهْ ؟ قال : سمعت قولاً حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب ، فقالوا : هو شعر ، فقال : لا والله ما هو بالشعر ، ليس أحد أعلم بالشعر مني ، أليس قد عرَضتْ عليّ الشعراء شعرَهم نابغة وفلان وفلان ؟ قالوا : فهو كاهن ، فقال : لا والله ما هو بكاهن ، قد عرضت عليّ الكهانة ، قالوا : فهذا سحر الأوّلين اكتتبه ، قال : لا أدري إن كان شيئا فعسى هو إذا سحر يؤثر ، فقرأ : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ قال : قتل كيف قدّر حين قال : ليس بشعر ، ثم قتل كيف قدّر حين قال : ليس بكهانة .