الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} (18)

قوله تعالى : " إنه فكر وقدر " يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و " قدر " أي هيأ الكلام في نفسه ، والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته ، وذلك أنه لما نزل : " حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " [ غافر : 1 ] إلى قوله : " إليه المصير " سمعه الوليد يقرؤها فقال : والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر . فقالت قريش : صبا الوليد لتصبون قريش كلها . وكان يقال للوليد ريحانة قريش ؛ فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه . فمضى إليه حزينا ؟ فقال له : مالي أراك حزينا . فقال له : ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليد وتكبر ، وقال : أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه ، فأنتم تعرفون قدر مالي ، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك ، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق ؟ قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله . قال : فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط ؟ قالوا : لا والله . قال : فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط ، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل{[15573]} رأيتموه كذلك ؟ قالوا : لا والله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه . فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ ففكر في نفسه ، ثم نظر ، ثم عبس ، فقال ما هو إلا ساحر ! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ فذلك قوله تعالى : " إنه فكر " أي في أمر محمد والقرآن " وقدر " في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما .


[15573]:تخلج المجنون في مشيته: تجاذب يمينا وشمالا.