ثم مدحهم - سبحانه - بأربع صفات فقال : { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ . . }
أى : بشر هؤلاء المخبتين الذين من صفاتهم أنهم إذا سمعوا ذكر الله - تعالى - وصفاته ، وحسابه لعباده يوم القيامة ، خافت قلوبهم ، وحذرت معصيته - تعالى
والذين من صفاتهم كذلك : الصبر على ما يصيبهم من مصائب ومحن فى هذه الحياة ، والمداومة على أداء الصلاة فى مواقيتها بإخلاص وخشوع ، والأنفاق مما رزقهم الله - تعالى - على الفقراء والمحتاجين .
فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الاية التى وصفت المؤمنين الصادقين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم . وبين قوله - تعالى - فى آية أخرى : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } فالجواب : أنه لا تنافى بين الآيتين ، لأن من شأن المؤمن الصادق أنه إذا استحضر وعيد الله وحسابه لعباده يوم القيامة ، امتلأ قلبه بالخشية والخوف والوجل .
فإذا ما استحضر بعد ذلك رحمته - سبحانه - وسعة عفوه ، اطمأن قلبه وسكن روعه ، وثبت يقينه ، وانشرح صدره ، استسلم لقضاء الله وقدره بدون تردد أو تشكك أو جزع .
فالوجل والاطمئنان أمران يجدهما المؤمن فى قلبه ، فى وقتين مختلفين . وفى حالتين متمايزتين .
ويؤخذ من هاتين الآيتين : أن التواضع لله - تعالى - ، والمراقبة له - سبحانه - والصبر على بلائه ، والمحافظة على فرائضه . . . كل ذلك يؤدى إلى رضاه - عز وجل - ، وإلى السعادة الدنيوية والأخروية .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصّابِرِينَ عَلَىَ مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
فهذا من نعت المخبتين يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وبشّر يا محمد المخبتين الذين تخشع قلوبهم لذكر الله وتخضع من خشيته ، وَجَلاً من عقابه وخوفا من سخطه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال : لا تقسو قلوبهم . والصّابِرِينَ عَلى ما أصَابَهُمْ من شدّة في أمر الله ، ونالهم من مكروه في جنبه . والمُقِيمِي الصّلاَةِ المفروضة . وَمِمّا رَزَقْناهُمْ من الأموال . يُنْفِقُونَ في الواجب عليهم إنفاقها فيه ، في زكاة ونفقة عيال ومن وجبت عليه نفقته وفي سبيل الله .
ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله ، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه ، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها ، وقرأ الجمهور «الصلاة » بالخفض ، وقرأ ابن أبي إسحاق «الصلاة » بالنصب على توهم النون وأن حذفها للتخفيف ، ورويت عن أبي عمرو{[8376]} ، وقرأ الأعمش «والمقيمين الصلاةَ » بالنون والنصب في «الصلاة » وقرأ الضحاك «والمقيمَ الصلاةَ » ، وروي أن هذه الآية ، قوله { وبشر المخبتين } نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم فقال: {الذين إذا ذكر الله وجلت} يعني: خافت {قلوبهم والصابرين على ما أصابهم} من أمر الله {والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، من الأموال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فهذا من نعت المخبتين، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وبشّر يا محمد المخبتين الذين تخشع قلوبهم لذكر الله وتخضع من خشيته، وَجَلاً من عقابه وخوفا من سخطه...
"والصّابِرِينَ عَلى ما أصَابَهُمْ" من شدّة في أمر الله، ونالهم من مكروه في جنبه. "والمُقِيمِي الصّلاَةِ" المفروضة.
"وَمِمّا رَزَقْناهُمْ" من الأموال، "يُنْفِقُونَ" في الواجب عليهم إنفاقها فيه، في زكاة ونفقة عيال ومن وجبت عليه نفقته وفي سبيل الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والوَجلُ عند الذكر على أقسام: إما لخوفِ عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم، أو لخروجٍ من الدنيا على غَفلَةٍ من غير استعدادٍ للموت، أو إصلاح أُهْبَةٍ، أو حياءٍ من الله سبحانه في أمورٍ إذا ذَكرَ اطلاعه -سبحانه- عليها لمَا بَدَرَت منه تلك الأمور التي هي غير محبوبة...
ويقال وَجلٌ له سبب ووجل بلا سبب؛ فالأول مخافةٌ من تقصير، والثاني معدودٌ في جملة الهيبة...
{وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ}. أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراهٍ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه...
ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله، ثم لذلك الوجل أثران أحدهما: الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله: {والصابرين على ما أصابهم} وعلى ما يكون من قبل الله تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب. فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة.
والثاني: الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله. أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله: {والمقيمي الصلاة} وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله: {ومما رزقناهم ينفقون}...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" وجلت قلوبهم "أي خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه هذه الآية نظير قوله تعالى:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون "[الأنفال: 2]...
وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا، والجنون فنون.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلاّ الله تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلاّ المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ذكر صفات المخبتين فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خوفا وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات، لخوفهم ووجلهم من الله وحده، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من البأساء والضراء، وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي ب {من} المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فبمجرد ذكر اسم الله يحرك الوجل في ضمائرهم ومشاعرهم. (والصابرين على ما أصابهم) فلا اعتراض لهم على قضاء الله فيهم. (والمقيمي الصلاة). فهم يعبدون الله حق عبادته. (ومما رزقناهم ينفقون) فهم لا يضنون على الله بما في أيديهم.. وهكذا يربط بين العقيدة والشعائر. فهي منبثقة من العقيدة وقائمة عليها. والشعائر تعبير عن هذه العقيدة ورمز لها. والمهم أن تصطبغ الحياة كلها ويصطبغ نشاطها كله بتلك الصبغة، فتتوحد الطاقة ويتوحد الاتجاه، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد أتبع صفة {المخبتين} بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصّبر على الأذى في سبيله،... وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود مَن جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود مَن لم يُخِل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأنّ ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب... والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبّة فمما تتشرك فيه النفوس الجلْدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقاً بأدب الإسلام قال تعالى: {وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
خلال أربع هي جماع خصال المؤمن الذي هذبت نفسه، وتجمل بالصبر، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه الله تعالى.
الخلة الأولى- {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}، (الوجل) الخوف والخشية من الله، لا لأنهم كثيرو الذنوب، إنما هو لاستصغار حسناتهم، واستكثار سيئاتهم وتصورها، فهم من الله تعالى القوي القهار في وجل، ومن خاف الله حذر مخالفته، وحاول طاعته، وسعى في مرضاته، والوجل صفة أهل الإيمان...
الخلة الثانية- فيها الصبر، ولذا قال تعالى: {والصابرين على ما أصابهم}، والصبر ضبط النفس، وسيطرة العقل، فإذا أصابهم أمر من أمور الدنيا المزعجة لا يهلعون ولا يفزعون، ويضبطون أنفسهم، فلا يكون عليهم شهوة جامحة، فلا يكون الهوى سيدا مطاعا...
والخلة الثالثة – إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة في ظاهرها وباطنها، فتكون النفس خاشعة خاضعة قانتة تحس النفس بروعتها، وأنها في حضرة ذي الجلال والإكرام وتمتلئ النفس بهيبته، وتخشع لعظمته...
والخلة الرابعة- الاتجاه إلى التعاون الاجتماعي، وذلك بمعونة الفقير، وسد الحاجات الاجتماعية والحربية، وهذا قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون}، والإنفاق يشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المنثورة، والصدقات تكفر الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار)... وإن الإنفاق بكل أنواعه التي أشرنا إليها هو تعاون اجتماعي في السلم والحرب...
فمرة يقول {وجلت قلوبهم}، ومرة {تطمئن القلوب (28)} [الرعد]، لماذا؟ لأن ذكر الله إن جاء بعد المخالفة لا بد للنفس أن تخاف وتوجل وتضطرب هيبة لله عز وجل، أما إن جاء ذكر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئن به، وتأنس لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه عند الشدة وتركن إليه عند الضيق والبلاء، فإن تعرضت لمصيبة وعزت أسباب دفعها عليك تقول: أنا لي رب فتلجأ إليه، كما كان من موسى- عليه السلام- حين قال: {إن معي ربي سيهدين... {والصابرين على ما أصابهم} ومعنى أصاب: يعني جاء بأمر سيء في عرفك أنت، فتعده مصيبة، لأننا نقدر المصيبة حسب سطحية العمل الإيذائي، إنما لو أخذت مع المصيبة في حسابك الأجر عليها لهانت عليك وما اعتبرتها كذلك...
{والمقيمي الصلاة} لأن الصلاة هي الولاء الدائم للعبد المسلم، والفرض الذي لا يسقط عنه بحال من الأحوال، فالشهادتان يكفي أن تقولها في العمر مرة، والزكاة إن كان عندك نصاب فهي مرة واحدة في العام كله، والصيام كذلك، شهر في العام، والحج إن كنت مستطيعا فهو مرة واحدة في العمر، وإن لم تكن مستطيعا فليس عليك حج. إذن: الصلاة هي الولاء المستمر للحق سبحانه على مدار اليوم كله، وربك هو الذي يدعوك إليها، ثم لك أن تحدد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في حضرته تعالى، لأنه سبحانه مستعد للقائك في أي وقت...
{ومما رزقناهم ينفقون} لا ينفقون من جيوبهم، إنما من عطاء الله ورزقه. ومن العجيب أن الله تعالى يعطيك ويهبك ويغدق عليك تفضلا منه سبحانه، فإذا أرادك تعين محتاجا قال لك: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}... وكأن الله تعالى يقول لنا: أنا لا أعود في هبتي ولا في عطائي، فأقول: اعط ما أخذته لفلان، بل إن أعطيت الفقير من مالك فهو أيضا لك مدخر لا يضيع، فرزقك الذي وهبك الله إياه ملكك، ولا نغبنك في شيء منه أبدا، فربك يحترم ملكيتك، ويحترم جزاء عملك وجدك واجتهادك...
والصدقة في الإسلام تأمين لصاحبها ضد الفقر إن احتاج، فأخوف ما يخافه المرء الحاجة عند الكبر، وعدم القدرة على الكسب، وعند الإعاقة عن العمل، يخاف أن ينفذ ماله، ويحتاج إلى الناس حال كبره. وعندها يقول له ربه: اطمئن، فكما أعطيت حال يسرك سيعطيك غيرك حال عوزك وحاجتك. إذن: أخذ منك ليعطيك، وليؤمن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه. الصدقة في الإسلام صندوق لتكافل المجتمع، كصندوق التأمين في شركات التأمين، فإذا ما ضاقت بك أسباب الرزق وشكوت الكبر والعجز نقول لك: لا تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل، وكما طلبنا منك أن تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أن يعطيك وأنت معدم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} في خوف عميق يستشعرونه في تصوّرهم العميق الممتد في الحياة للأسرار الخفيّة والظاهرة لمواقع العظمة في خلقه، فيقودهم ذلك إلى الخضوع لإِرادته خوفاً من عقابه الذي لا يفلت منه أحد، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} المتماسكين أمام التحديات الكبيرة في الحياة، وأمام ما يحل بهم من بلاء مادي أو معنوي في أنفسهم وفي أهليهم وفي أموالهم، وذلك بسبب الإيمان الضارب في أعماق الذات الذي يشكل ثبات الإنسان لاتصال القلب منه مع القوّة المطلقة المتمثلة في ذات الله، {وَالْمُقِيمِي الصّلاة} التي يعرج فيها الإنسان إلى الله بروحه، ويتحرك في مواقع طاعته بجسده، حيث تصفو الروح بمناجاة الله، ويخشع القلب بذكره، ويتطهر الجسد بطاعته في مواقع الطهارة، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فيعبدون الله بالصدقة التي يقدمونها للمحرومين من خالص أموالهم، وفي ذلك تتجسّد العبادة في جوهر فكرة العطاء وحركتها مادياً، فتتكامل العبادة لدى هؤلاء، في خشوع القلب، وثبات الموقف، وصلاة الروح والجسد، وحركة العطاء.. وإذا كان العطاء المالي هو مظهر العبادة عندما ينطلق من رغبة القرب من الله، باعتبار أنه تعالى يحبّ إعانة عباده المحرومين، فإن العطاء الفكري والروحي، الذي يتمثل في ما يقدمه الإنسان من فكرٍ للجاهل ومن طاقةٍ روحيةٍ للضالّ، أو من قوة نفسية للضعيف وغير ذلك من أنواع العطاء، يمكن أن يكون عبادةً بمعناها الواحد، عندما تلتقي كل هذه الأشياء في موقف القربة إلى الله، والرغبة في الحصول على رضاه.. وذلك هو السرّ الذي يشكل قوام بناء الشخصية الإنسانية في الإسلام، في ما يجتمع لديها من عناصر الحركة كلها في الحياة أمام الله...