وقوله - تعالى - بعد ذلك : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } تعليل لما قبله . أى : أنا لا أدرى متى يكون عذابكم - أيها الكافرون - لأن مرد علم ذلك إلى الله - تعالى - الذى هو عليم بكل شئ من الظواهر والبواطن ، والذى اقتضت حكمته أن لا يطلع أحدا على غيوبه ، وعلى ما استتر وخفى من أمور خلقه .
وقوله : عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ يعني بعالم الغيب : عالم ما غاب عن أبصار خلقه ، فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا ، فيعلمه أو يريه إياه إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يظهره على ما شاء من ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه ، وما يحكم الله ، فإنه لا يعلم ذلك غيره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : عالِم الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يصطفيهم ، ويطلعهم على ما يشاء من الغيب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يظهره من الغيب على ما شاء إذا ارتضاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ قال : ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن ، قال : وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة .
وقوله : فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا يقول : فإنه يرسل من أمامه ومن خلفه حرسا وحفظة يحفظونه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه ، أن يتشبّه الشيطان على صورة الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن طلحة ، يعني ابن مصرف ، عن إبراهيم ، في قوله : مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة رصد من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من الجن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة .
وجملة { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً } في موضع العلة لجملة { إن أدري أقريب ما توعدون } الآية .
و { عالم الغيب } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله { ربي } . وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفاً اتُّبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في « المفتاح » .
و { الغيب } : مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس .
وإضافة صفة { عالم } إلى { الغيب } تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراداً فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته ، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن . ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها ، فإيثار المصدر هنا لأنه أشمل لإِحاطة علم الله بجميع ذلك .
وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 3 ) .
وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر ، أي هو عالم الغيب لا أنا .
وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة { فلا يُظْهر على غيبه أحداً } ، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه .
ومعنى { لا يظهر على غيبه أحداً } : لا يُطلع ولا ينبىء به ، وهو أقوى من يطلع لأن { يظهر } جاء من الظهور وهو المشاهدة ولتضمينه معنى : يطلع ، عدي بحرف { على } .
ووقوع الفعل في حيّز النفي يفيد العموم ، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيّزه يفيد العموم .
وحرف { على } مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى { وأظهره الله عليه } [ التحريم : 3 ] فهو استعلاء مجازي .
واستثنى من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب ، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله ، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إِخبار بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.