جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرّا، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرا، "أن الله يعلم سرّهم "الذي يسرونه في أنفسهم من الكفر به وبرسوله، "وَنَجْوَاهُمْ" يقول: ونجواهم إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به، فيحذروا من الله عقوبته أن يحلها بهم وسطوته أن يوقعها بهم على كفرهم بالله وبرسوله وعيبهم للإسلام وأهله، فينزعوا عن ذلك ويتوبوا منه. "وأنّ اللّهَ عَلاّمُ الغُيُوبِ" يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم، مما أكنّته نفوسهم، فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب، ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه، وإظهار خلاف ما يعتقدونه؟
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: أن قد علموا (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) لكثرة ما يطلع رسوله على ما أسروا من الخلاف له وذكرهم السوء في رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: (ألم يعلموا) أي ألم يعلموا أن الله يعمل سرهم ونجواهم ويطلع رسوله على سرهم ونجواهم فيتركوا الطعن في رسول اللَّه، وذِكْرِ السوء فيه والخلاف له.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) أي: علام بالغيوب التي غابت عن الخلق، وإلا ليس شيء يغيب عنه، ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنده بمحل واحد. أو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، أي: علام بما يكون أبدًا في جميع الأوقات...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
خوَّفَهم بعلمه كما خوَّفهم بفعله في أكثر من موضعٍ من كتابه. و {سِرَّهُمْ} ما لا يطلع عليه غير الله. و {نَجْوَاهُمْ} ما يتسارون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكونَ ما لنفوسهم عليه إشرافٌ من خواطرهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سِرَّهُمْ ونجواهم} ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين...
والسر ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما، ونظيره قوله تعالى: {وقربناه نجيا} وقوله: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} وقوله: {فلا تتناجوا بالإثم والعدوان وتناجوا بالبر والتقوى} وقوله: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}. إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال: ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر؟
ثم قال: {وأن الله علام الغيوب} والعلام مبالغة في العالم، والغيب ما كان غائبا عن الخلق...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع. وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن: تعلموا بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير. وأنه تعالى فاضح المنافقين، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئاً فشيئاً سرهم ونجواهم. هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم الله بهم. والظاهر أنّ الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيرهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت المعاهدة سبباً للإغناء في الظاهر، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه، وكان الحكم هنا وارداً على القلب بالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق مع عدم القدرة لصاحبه على التخلص منه، كان ذلك أدل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال: {ألم يعلموا أن الله} أي الذي له صفات الكمال {يعلم سرهم} وهو ما أخفته صدورهم {ونجواهم} أي ما فاوض فيه بعضهم بعضاً، لا يخفى عليه شيء منه {وأن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {علام الغيوب} أي كلها، أي ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعواقب فيخشوا عاقبته فيوفوا بعهده، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرون، ويقولون ما لا يفعلون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول، أن الله يعلم سرهم الكامن في أعماق قلوبهم، ونجواهم التي يخصون بها من يثقون بمشاركته إياهم في نفاقهم، {وأن الله علام الغيوب} كلها {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران: 5]، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: 19]، فهم يكذبون على الله فيما يعاهدونه به، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه. الاستفهام في قوله تعالى ألم يعلموا للتوبيخ والإنذار، أو للتنبيه القاطع لطريق الاعتذار، فإن المنافقين كانوا يؤمنون بوجود الله وعلمه إيماناً إجماليا تقليدياً، وإنما كانوا يرتابون في الرسالة والوحي والبعث، ولكن ما ذكر من عملهم وأيمانهم الكاذبة باسمه هو عمل من لا يؤمن به، ولا يعلم أنه يعلم سره ونجواه وأنه علام الغيوب، فإن من يعلم هذا علماً صحيحاً فلا بد أن يستحيي من الله ويخاف عقابه إن كان يؤمن بالبعث والجزاء، ولكنهم لا يعلمون ذاك ولا يؤمنون بهذا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وإنما آتاهم الله من فضله ووسع عليهم الرزق – وهو يعلم السر والنجوى – ليبلوهم وينظر كيف يعملون أولا، وليظهر حقيقة حالهم للناس ثانيا، حتى يكونوا على بينة من نفاقهم الراسخ، ومعرفة بمرض قلبهم المزمن، على حد قوله تعالى في آية أخرى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...وهنا ملاحظة أُخرى ينبغي أن ننبه عليها، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثاً تاريخياً مختصاً بحقبة مضت من الزمان، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.
إذا لاحظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إِلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إِعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية، وينضوون تحت كل لواء يدعو إِلى الإِصلاح وإِنقاذ المجتمع، ويضمون أصواتهم إِلى كل مناد بالحق والعدالة، ولا يألون جهداً في سبيل أعمال الخير، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.
أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس، فستتغير صورهم وسلوكهم، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة الباطل.
هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإِعراب، أو أثر في المجتمع، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإِشكالات والانتقادات في حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأُمور، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها، وستتبخر كل تلك الإِيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.
نعم، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين، وهل النفاق إلاّ كون صاحبه ذا وجهين، وبتعبير آخر: هل هو إلاّ ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة، لأن الإِنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.
ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة، كالإِيمان، تماماً، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإِيمان بالله من قلوبهم، ولم تُبق لها أثراً، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.
لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيماناً ضعيفاً، وهم مسلمون بالفعل، إلاّ أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين، وتفوح منها رائحة الازدواجية، فهؤلاء ديدنهم الكذب، إلاّ أن ظاهرهم الصدق والصلاح، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضاً أنّهم منافقون وذوو وجهين.
أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم، إلاّ أنّه يخونهم في أماناتهم، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟
وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق، لكنّهم لا يفون بها مطلقاً، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟
إن من أكبر الأمراض الاجتماعية، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الإسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإِسلامية، فإننا نحمّل الإِسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!