الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (78)

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ؟

عن مسروق عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خصم فجر " .

الأشعث عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كُنَّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنه مؤمن . إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، إذا أؤتمن خان " .

وقال عبد الله بن مسعود اعتبروا المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، أنزل الله تصديق ذلك في كتابه { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ } إلى قوله { كَانُواْ يَكْذِبُونَ } ، وهذا خبر صعب الظاهر . فمن لم يعلم تأويله عظم خطؤه وتفسيره .

أخبرني شيخي الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر ، قال : أخبرني أبي عن جدي الحسين بن جعفر ، قال : حدّثنا محمد بن يزيد السلمي ، قال : حدّثنا عمار بن قيراط عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال : كنت على قضاء سمرقند فقرأت يوماً حديث المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كُنّ فيه فهو منافق : إذا حدّث كذب ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف " .

فتوزع فيه فكري وانقسم قلبي وخفت على نفسي وعلى جميع الناس وقلت من ينجو من هذه الخصال ؟ [ فأخللت ] بالقضاء وأتيت بخارى وسألت علماءها فلم أجد فرجاً ، فأتيت مرو فلم أجد فرجاً ، فأتيت نيشابور فلم أجد عند علمائها فرجاً ، فبلغني أن شهر بن حوشب بجرجان فأتيته وعرضت عليه قصتي وسألت عن الخبر ، فقال لي : لم [ أكن ] أنا [ حين ] سمعت هذا الخبر كالحبة على المقلاة خوفاً فأدركْ سعيد بن جبير فأنه متولد بالريّ فاطلبه وسله لعلك تجد لي ولك ، وسمعت أن عنده فرجاً ، فأتيت الري وطلبت سعيداً فأتيته وعرضت عليه القصة وسألته عن معنى الخبر .

فقال : أنا كذلك خائف على نفسي منذ بلغني هذا الخبر ، وأنا خائف عليك وعلى نفسي من هذه الخصال : ولقد قاسيت وعانيت سفراً طويلاً وبلاياً فعليك بالحسن البصري فإني أرجو أنك تجد عنده لي ولك وللمسلمين فرجاً ، فأتيت البصرة وطلبت الحسن وقصصت عليه القصة بطولها ، فقال رحم الله شهراً قد بلغها النصف من الخبر ولم يبلغهما النصف ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الخبر شغل قلوب أصحابه ( وهابوا ) أن يسألوه ، فأتوا فاطمة وذكروا لها شغل قلوبهم بالخبر ، فأتت فاطمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته شغل قلوب أصحابه ، فأمر سلمان فنادى الصلاة جامعة ، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فقال : " يا أيها الناس أما إنّي كنت قلت : ثلاث من كُنّ فيه فهو منافق : إذا حدّث كذب ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، ما عنيتكم بها ، إنّما عنيت بها المنافقين ، إنما قولي : إذا حدّث كذب فإن المنافقين أتوني وقالوا لي : والله إن إيماننا كإيمانك وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] الآية ، وأما قولي : إذا أؤتمن خان : فإن الأمانة الصلاة والدين كلّه أمانة ، قال الله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] وفيهم قال : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4-5 ] وأما قولي : إذا وعد أخلف ، فإنّ ثعلبة بن حاطب أتاني فقال : إني فقير ولي غنيمات فادع الله أن يبارك فيهن ، فدعوت الله فنمتْ وزادت حتى ضاقت الفجاج بها ، فسألته الصدقات فأبى عليّ وبخل بها ، فأنزل الله عزّ وجلّ { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ } إلى قوله { بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } " . فسُرّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكبّروا وتصدّقوا بمال عظيم .

وروى القاسم بن بشر عن أُسامة عن محمد [ المخرمي ] قال : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : [ من ] إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان "

فقال الحسن : يا أبا سعيد والله لئن كان لرجل عليَّ دين فلقيني فتقاضاني وليس عندي فخفت أن يحبسني ويهلكني فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل أمنافق أنا ؟ ! هكذا جاء الحديث .

ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت قال : زوّجوا فلاناً فإني وعدته أن أزوجه ، لا ألقى الله بثلث النفاق ، قال : قلت : يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقاً وثلثاه مؤمناً ؟ قال : هكذا جاء الحديث .

قال محمد : فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح فأخبرته بالحديث الذي سمعته من الحسن وما الذي قلت له عن المنافق وما قال لي : فقال لي أعجزت أن تقول له : أخبرني عن إخوة يوسف ألم يَعِدُوا أباهم فأخلفوه وحدثوه فكذبوه وائتمنهم فخانوه أفمنافقين كانوا ألم يكونوا أنبياء ، أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ ؟

فقلت لعطاء : يا أبا مُحَمّد حَدّثَني بأصل هذا الحديث ، فقال : حَدّثَني جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سرّه فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه ، قال : فخرج أبو سفيان من مكة فأتى جبريل فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا " فكتب رجل من المنافقين إليه : إن محمداً يريد بعثكم فأنزل الله عزّ وجلّ

{ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] وأنزل في المنافقين { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا } إلى قوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } . قال : إذا أتيت الحسن فاقرأه مني السلام فأخبره أصل هذا الحديث وبما قلت لك .

فقدمت على الحسن وقلت : يا أبا سعيد إن أخاك محمّداً يقرئك السلام ، فأخبرته بالحديث الذي حدث . فأخذ الحسن يدي فأحالها وقال : يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا ، سمع منا حديثاً فلم يقبله حتى استنبط أصله ، صدق عطاء هكذا الحديث في المنافقين خاصة .