عبقري : العجيب النادر الموشَّى من البسط .
76- { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } .
الرفرف : الوسائد ، أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة .
وطنافس ثخينة مزخرفة ، محلاة بأنواع الصّور والزينة .
قال في حاشية الجمل على الجلالين :
وهي نسبة إلى ( عبقر ) قرية بناحية اليمن ، تنسج فيها بُسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن ، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة .
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ . . . يعني : الوسائد ، وقال سعيد بن جبير : الرفرف : رياض الجنة .
{ متكئين على رفرف خضر } أي على الوسائد . أو الفرش المرتفعة . أو الرقيق من ثياب الديباج ، ذات اللون السندسي الأخضر . أو على ثياب خضر ، تتخذ منها الستور التي تبسط على وجه الفراش للنوم عليه . واشتقاقه من رف . إذا ارتفع . وهو اسم جمع واحده رفرفة . أو اسم جنس جمعي . { وعبقري حسان } طنافس ، وهي أبسطة لها أهداب رقيقة . أو هو الثياب الموشاة ؛ وكل ثوب وشى فهو عند العرب عبقري . أو هو الديباج الغليظ . والعبقري في الأصل : الكامل من كل شيء . أو الجليل النفيس الفاخر من الرجال وغيرهم ؛ وياؤه كياء كرسي وبختي ، " والمراد الجنس . أو هو اسم جمع ، أو جمع واحدة عبقرية ، ولذا وصف بالحسان .
رفرف : واحدهُ رفرفة : وهي الوسادة ، المخدة .
عبقري حسان : معناه النادر الموشى من البسُط والفرش ، والعرب تُسنِد كلَّ عملٍ عجيب إلى عبقر .
وهؤلاء المؤمنون مع أزواجهم في غاية السعادة والسرور ، متكئين على فُرشٍ عليها وسائد وأغطية خُضْر وطنافس حسان عجيبة الصنع من صنع وادي عبقر . والعربُ تنسب كل شيء عجيب إلى وادي الجن ، ويكنّون عنه بِعَبْقَرَ .
وقوله سبحانه : { مُتَّكِئِينَ } قيل : بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين ، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما { على رَفْرَفٍ } اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة ، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى : { خُضْرٍ } وجعله بعضهم جمعاً لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل ، وفسره في الآية عليّ كرم الله تعالى وجهه . وابن عباس . والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه ، وقال الجوهري : الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع ، وقال الحسن فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه هي البسط .
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد ، وروي ذلك عن الحسن أيضاً . وابن كيسان وقال الجبائي : الفرش المرتفعة ، وقيل : ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب ، وقال الراغب : ضرب من الثياب مشبهة بالرياض ، وأخرج ابن جرير . وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : الرفرق رياض الجنة ، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه كما في «البحر » من رف النبت نعم وحسن ، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد ، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء { وَعَبْقَرِىّ } هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر ، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أرى عبقرياً يفري فريه ، ولتناسي تلك النسبة قيل : إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب ، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى : { حِسَانٌ } حملاً على المعنى ، وقيل : هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية ، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي ، وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط .
وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف .
وقرأ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه . ونصر بن عاصم الجحدري . ومالك بن دينار . وابن محيصن . وزهير الفرقبي . وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف { حَضرَ } بسكون الضاد ، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة ، وعنهم أيضاً ضم الضاد ، وعنهم أيضاً فتح القاف قاله صاحب اللوامح ، ثم قال أما منع الصرف من عباقري . فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى .
وقال ابن خالويه : قرأ على رفارف خضر وعباقري النبي صلى الله عليه وسلم ، والجحدري .
وابن محيصن ، وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار ، وقرأ أبو محمد . المروزي وكان نحوياً على رفارف خضار بوزن فعال ، وقال صاحب الكامل : قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف . وابن مقسم . وابن محيصن ، واختاره شبل . وأبو حيوة . والجحدري . والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى : { خُضْرٍ } ، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم . وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين .
وقال ابن عطية : قرأ زهير القرقبي رفارف بالجمع وترك الصرف ، وأبو طعمة المدني . وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف . وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك ، وعباقري بالجمع والصرف ، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح فيه عبقر ، وقال الزمخشري : قرئ عباقري كمدايني .
وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته ، وقال الزجاج : هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت : عباقرة نحو مهلبى ومهالبة ولا تقول مهالبي .
وقال ابن جني : أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله ، وقال ابن هشام : كونه من النسبة إلى الجمع كمدايني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفرداً ولا يصح منع صرفه كمدايني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي ، وقال صاحب الكشف : فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكسر .
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد يذهبن في نجد وغوراً . وإضافته إلى { حِسَانٌ } مثل إضافة حور إلى { عين } [ الواقعة : 22 ] في قراءة عكرمة كأنه قيل : عباقري مفارش ، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف ، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى ، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل ، وقرأ ابن هرمز { خُضْرٍ } بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة
: أيها القينات في مجلسنا *** جرّد ، وا منها وراداً «وشقر »
: وما انتميت إلى خود ولا «كشف » *** ولا لئام غداة الروع أو زاع
فشقر جمع أشقر ، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب ، هذا والوصف بقوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ } الخ دون الوصف بقوله سبحانه : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 76 ] عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف .
ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظاهرة وبطانة وهو أبلغ من الأول ، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري ، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات ، وقد يقال غير ذلك فتأمل ، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم ، أو يقال إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } أيضاً { جَنَّتَانِ } صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين ، وعليه قيل : { جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] عطف على { جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] قبله { وَمِن دُونِهِمَا } في موضع الحال ، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عز وجل فله يوم القيامة أربع جنان .
قال الطبرسي : والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر ، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالاً ظاهراً لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفاً إذ حكم مثله حكم المرفوع لم يكن لنا العدول عما يقتضيه ، وقد روي عنه أيضاً حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في «الدر المنثور » يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس .
وأخرج عنه أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي . والنسائي . وابن ماجه . وغيرهم أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جنان الفردوس أربع . جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما . وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان ، ومعنى قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ } [ الرحمن : 46 ] الخ عليه مما لا يخفى ، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدراً وأحسن منظراً من الحور المقصورات في الخيام بناءاً على أنهن النساء المخلوقات في الجنة .
فقد جاء من حديث أم سلمة " قلت يا رسول الله : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ، قلت : يا رسول الله وبم ذاك ؟ قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبداً ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً طوبى لمن كنا له وكان لنا " إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيداً للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولاً على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعاراً ظاهراً وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين ، وأخر سبحانه ذكره ثانياً عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه ، وإذا قلنا : إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع ، وقال الإمام في ذلك : إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائماً لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب ، ومنهم من يكون متردداً في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عز وجل قال في أهل الجنة : { مُتَّكِئُونَ } قبل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضاً ، ثم ذكر في ذلك وجهاً ثانياً وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر .
{ على رفرف خضر } : أي على وسائد أو بسط الواحدة رفرفة خضر جمع أخضر .
{ وعبقري حسان } : أي طنافس جمع طنفسة بساط له خمل رقيق أي بسط حسان .
وقوله تعالى : { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } أي متكئين على رفرف خضر والرفرف جمع رفرفة أي على وسائد أو بُسُطٍ خَضْرٍ ، وعبقريّ حِسان أي على طنافس ذات خمل دقيق .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أي : أصحاب هاتين الجنتين ، متكأهم على الرفرف الأخضر ، وهي الفرش التي فوق{[959]} المجالس العالية ، التي قد زادت على مجالسهم ، فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم ، لزيادة البهاء وحسن المنظر ، { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } العبقري : نسبة لكل منسوج نسجا حسنا فاخرا ، ولهذا وصفها بالحسن الشامل ، لحسن الصنعة وحسن المنظر ، ونعومة الملمس ، وهاتان الجنتان دون الجنتين الأوليين ، كما نص الله على ذلك بقوله : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف لم يصف بها الأخريين ، فقال في الأوليين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ }
وفي الأخريين : { عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة .
وقال في الأوليين : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ولم يقل ذلك في الأخريين . وقال في الأوليين : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } وفي الأخريين { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وقد علم ما بين الوصفين من التفاوت .
وقال في الأوليين : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } ولم يقل ذلك في الأخيرتين ، بل قال : { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ }
وقال في الأوليين ، في وصف نسائهم وأزواجهم : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } وقال في الأخريين : { حور مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } وقد علم التفاوت بين ذلك .
وقال في الأوليين{[960]} { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } فدل ذلك أن الأوليين جزاء المحسنين ، ولم يقل ذلك في الأخريين .
ومجرد تقديم الأوليين على الأخريين ، يدل على فضلهما .
فبهذه الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين ، وأنهما معدتان للمقربين من الأنبياء ، والصديقين ، وخواص عباد الله الصالحين ، وأن الأخريين معدتان لعموم المؤمنين ، وفي كل من الجنات [ المذكورات ] ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وفيهن ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأهلها في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى ، حتى إن كلا{[961]} منهم لا يرى أحدا أحسن حالا منه ، ولا أعلى من نعيمه [ الذي هو فيه ] .
قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان* متكئين على رفرف خضر } قال سعيد بن جبير : الرفرف : رياض الجنة . خضر : مخضبة . ويروى ذلك عن ابن عباس ، واحدتها رفرفة ، وقال : الرفارف جمع الجمع . وقيل : الرفرف : البسط ، وهو قول الحسن ومقاتل والقرظي وروى العوفي عن ابن عباس : الرفرف : فضول المجالس والبسط . وقال الضحاك وقتادة : هي مجالس خضر فوق الفرش . وقال ابن كيسان : هي المرافق . وقال ابن عيينة الزرابي . وقال غيره : كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف . { وعبقري حسان } هي الزرابي والطنافس الثخان ، وهي جمع ، واحدتها عبقرية ، وقال قتادة : العبقري : عتاق الزرابي ، وقال أبو العالية : هي الطنافس المخملة إلى الرقة . وقال القتيبي : كل ثوب موشىً عند العرب : عبقري . وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي . قال الخليل : كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب : عبقري ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه : " فلم أر عبقرياً يفري فريه " .
وقوله : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ . . . } حال من قوله - تعالى - : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ . . . } والرفرف : مأخوذ من الرَّف بمعنى الارتفاع ، وهو اسم جمع واحده رفرفة ، أو اسم جنس جمعى و { خُضْرٍ } صفة له . .
والعبقرى : وصف لكل ما كان ممتازا فى جنسه . نادر الوجود فى صفاته والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب ، والبالغ النهاية فى الجودة والجمال .
قال القرطبى : العبقرى : ثياب منقوشة تبسط . . . قال القتيبى : كل ثوب وشى عند العرب فهو عبقرى . وقال أبو عبيد : هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشى .
ويقال : عبقر قريى باليمن تنسج فيها بسط منقوشة . وقال ابن الأنبارى : إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل ، ومنه قوله النبى - صلى الله عليه وسلم - : فى عمر ابن الخطاب : فلم ار عبقريا يفرى فريه .
أى : هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم ، قد أسكناهم بفضلنا الجنات العاليات حالة كونهم فيها على الفرش الجميلة المرتفعة . وعلى الأبسطة التى بلغت الغاية فى حسنها وجودتها ودقة وشيها . .
قوله : { متكئين على رفرف خضر } متكئين ، منصوب على الاختصاص . أي مضطجعين ، أو جالسين { على رفرف خضر } والرفرف في تأويله عدة أقوال . فقد ذكر أنه رياض الجنة . وقيل : النمارق . وقيل : ضرب من البسط . والرفرف ، جمع رفرفة . وعبقري ، يعني الزرابي . وقيل : الديباج وقيل : العبقري ، الكامل من كل شيء ، والسيد ، والذي ليس فوقه شيء{[4433]} وفي الخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في عمر : " فلم أر عبقريا يفري فريه " وكل ذلك فضل وإنعام من رب العالمين يمن به على عباده الصالحين في الجنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{متكئين على رفرف خضر} يعني المحابس فوق الفرش {وعبقري حسان} يعني لزرابي، وهي الطنافس المخملة، وهي الحسان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ينعم هؤلاء الذين أكرمهم جلّ ثناؤه هذه الكرامة التي وصفها في هذه الآيات في الجنتين اللتين وصفهما" مُتّكِئِينَ على زَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسانِ". واختلف أهل التأويل في معنى الرفرف؛
فقال بعضهم: هي رياض الجنة، واحدتها: رفرفة...
وأما العبقريّ، فإنه الطنافس الثخان، وهي جماع، واحدها: عبقرية. وقد ذُكر أن العرب تسمي كل شيء من البسط عبقريا.
وقال آخرون: العبقريّ: الديباج...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فيه ستة تأويلات:
الرابع: أنها الفرش المرتفعة، مأخوذ من الرف.
الخامس: أنها المجالس يتكئون على فضولها.
{وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فيه أربعة أقاويل:
الثالث: أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد...
الرابع: أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والرفارف...،أصله من رف النبت يرف إذا صار غضا نضرا. وقيل: لما في الأطراف رفرف، لأنه كالنبت الغض الذي يرف من غضاضته. والخضر جمع أخضر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
العبقري عند العرب كلُّ ثوبٍ مُوَشَّى.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الرفرف كل فرش يرتفع، مأخوذ من الرف، وهو المرتفع في الجدار. وعبقري: قرية باليمن ينسج بها الوشي، وهم ينسبون إليها كل شيء حسن. وقد ذكر بعضهم أن العبقري هاهنا: هو الوشي.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
الرفارف:... هي مجالس خضر فوق الفرش...
كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف...العبقري: عتاق الزرابي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والرفرف: ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب والبسط،العبقري:...
{متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}...
الرفرف إما أن يكون أصله من رف الزرع إذا بلغ من نضارته فيكون مناسبا لقوله تعالى: {مدهامتان} ويكون التقدير أنهم متكئون على الرياض والثياب العبقرية، وإما أن يكون من رفرفة الطائر، وهي حومة في الهواء حول ما يريد النزول عليه فيكون المعنى أنهم على بسط مرفوعة كما قال تعالى: {وفرش مرفوعة} وهذا يدل على أن قوله تعالى: {ومن دونهما جنتان} أنهما دونهما في المكان حيث رفعت فرشهم... إذ قلنا: إن الرفرف هي البسط فما الفائدة في الخضر حيث وصف تعالى ثياب الجنة بكونها خضرا قال تعالى: {ثياب سندس خضر}؟
نقول: ميل الناس إلى اللون الأخضر في الدنيا أكثر فذكر الله تعالى في الآخرة ما هو على مقتضى طبعه في الدنيا.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنسيته، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين الدانيتين هو متكاهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان.ثم قال: "وعبقري حسان " فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر!. وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
رفرف:.. هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره.قال ابن الأعرابي: الرفرف هاهنا طرف الفسطاط. فشبه ما فضل من المحابس عما تحته بطرف الفسطاط، فسمى رفرفا. وكل ما فضل من شيء فثُنِيَ وعُطف: فهو رفرف...
. عبقري.. يقال: أنه نسب إلى «عبقر»، وهي أرض يسكنها الجن، فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع،...وقال أبو الحسن الواحدي: وهذا القول هو الصحيح في «العبقري». وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن، أو شبهته بهم،هذا هو الأصل، ثم صار العبقري نعتا لكل ما بولغ في صفته. فتأمل كيف وصف الله سبحانه وتعالى «الفرش» بأنها مرفوعة، و«الزرابي» أنها مبثوثة، و«النمارق» بأنها مصفوفة، فرفع الفرش دال على سمكها ولينها. وبث الزرابي دال على كثرتها، وأنها في كل موضع، لا يختص بها صدر المجلس دون مؤخره، ووصف المساند يدل على أنها مهيأة للاستناد إليها دائما، ليست مخبأة تصف في وقت دون وقت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{متكئين} أي لهم ذلك في حال الاتكاء ديدناً لأنهم لا شغل لهم بوجه إلا التمتع {على رفرف} أي ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة ورياض باهرة وبسط لها أطراف فاضلة، ورفرف السحاب هدبه أي ذيله المتدلي. ولما كان الأخضر أحسن الألوان وأبهجها قال: {خضر وعبقري} أي متاع كامل من البسط وغيرها هو في كماله وغرابته كأنه من عمل الجن، والعبقري الكامل من كل شيء، {حسان} أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {متكئين}: حال من {ولمن خاف مقام ربه} كررت بدون عطف لأنها في مقام تعداد النعم وهو مقام يقتضي التكرير استئنافاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«رفرف» في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار، ثمّ أطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق...
«عبقري» في الأصل بمعنى كلّ موجود قلّ نظيره، ولذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أنّ كلمة (عبقر) كان في البداية اسما لمدينة (بريان) انتخبه العرب لها، لأنّ هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم ونادر. لذا فإنّ كلّ موضوع يقلّ نظيره ينسب لها ويقال «عبقري». وذكر البعض أنّ «عبقر» كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية...والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر وتستعمل كلمة «عبقري» ككلمة مستقلّة بمعنى نادر الوجود، وتأتي جمعاً في بعض الأحيان، كما في الآية مورد البحث. و (حسان) جمع (حسن) على وزن «نسب» بمعنى جيّد ولطيف.. وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعابير حاكية جميعاً عن أنّ كلّ موجودات الجنّة رائعة: الفاكهة، الغذاء، القصور، الأفرشة.. والخلاصة أنّ كلّ شيء فيها لا نظير له ولا شبيه في نوعه.