اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرٖ وَعَبۡقَرِيٍّ حِسَانٖ} (76)

قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } .

«الرفرف » : جمع رفرفة فهو اسم جنس .

وقيل : بل هو اسم جمع . نقله مكي{[54628]} ، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري{[54629]} : «والرفرف » : ثياب خضر تتخذ منها المحابس ، الواحدة : رَفرفة .

واشتقاقه : من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء ، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطَّيران ، ورفرف السحاب هبوبه .

ويدلّ على كونه جمعاً وصفه بالجمع .

وقال الراغب{[54630]} : رفيف الشجر : انتشار أغصانه ، ورفيف الطائر نشر جناحيه ، رَفَّ يَرِفُّ - بالكسر - ورفَّ فرخه يرُفُّه - بالضم - يفقده ، ثم استعير للفقدِ ، ومنه : «ما له حاف ولا رافّ » ، أي : من يحفه ويتفقده ، والرفرف : المنتشر من الأوراق .

وقوله : { على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ضرب من الثياب مشبه بالرياض .

وقيل : الرفرف طرف الفُسْطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد .

وذكر الحسن : أنه البُسُط .

وقال ابن جبير ، وابن عباس أيضاً : رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن{[54631]} .

وقال ابن عيينة : هي الزَّرابي .

وقال ابن كيسان : هي المرافق .

وقال أبو عبيدة : هي حاشية الثوب .

وقيل : الفرش المرتفعة .

وقيل : كل ثوب عريض عند العرب ، فهو رفرف .

قال القرطبي{[54632]} : «وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : فرُفِعَ الرَّفْرَفُ فَرأيْنَا وَجْهَهُ كأنَّهُ ورقَةٌ تُخَشْخِشُ » .

أي : رفع طرف الفسطاط .

وقيل : أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضًّا نضيراً .

قال القتبي : يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز : رفّ يرفّ رفيفاً . حكاه الهروي . وقد قيل : إن الرَّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به ، وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذّذ به مع أنيسه ، قاله الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول » .

قال : فالرفرف أعظم خطراً من الفرش ، فذكر في الأوليين { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } .

وقال هنا : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } .

فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به ، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح .

ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى ، جاء الرفرف فتناوله من جبريل ، وطار به إلى سند العرش ، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي ، ثم لما كان الانصراف تناوله ، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى آواه إلى جبريل - عليه السلام{[54633]} - .

ف «الرفرف » : خادم من الخدم بين يدي الله - تعالى - له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه ، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدَّانيتين هو مُتَّكأهما وفرشهما ، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه{[54634]} .

فصل في الكلام على قوله : خضر

قوله تعالى : «خُضْرٍ » . نعت هنا ب «خضر » ؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله : { والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] وحسن جمعه هنا جمع «حِسَان »{[54635]} .

وقرأ العامة : «رفرف » وقرأ عثمان{[54636]} بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي{[54637]} وغيرهم : «رفَارِفَ خُضْرٍ » بالجمع وسكون الضاد .

وعنهم أيضاً «خُضُر » بضم الضاد ، وهي إتباع للخاء .

وقيل : هي لغة في جمع «أفْعَل » الصفة .

قال القرطبي{[54638]} : وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { متَّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان } . ذكره الثعلبي ، وضم الضاد من «خُضُر » قليل .

وأنشد ل «طرفة » : [ الرمل ]

أيُّهَا الفِتْيانُ في مَجْلِسنَا *** جَرِّدُوا مِنهَا وِرَاداً وشُقُرْ{[54639]}

وقال آخر : [ البسيط ]

ومَا انتميْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُفٍ *** ولا لِئَامٍ غَداةَ الرَّوْعِ أوْزاعِ{[54640]}

وقرءوا{[54641]} : «وعَباقِريَّ » - بكسر القاف وتشديد الياء - مفتوحة على منع الصرف ، وهي مشكلة .

إذ لا مانع من تنوين ياء النَّسب ، وكأن هذا القارئ توهم كونها في «مفاعل » تمنع من الصرف{[54642]} .

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «عباقريّ »{[54643]} منوناً ابن خالويه .

وروي عن عاصم : «رَفَارِف » بالصَّرف{[54644]} .

وقد يقال في من منع «عَبَاقِري » : إنه لما جاور «رَفارِف » الممتنع امتنع مشاكلة .

وفي من صرف «رَفارف » : إنه لما جاور «عباقِريًّا » المنصرف صرفه للتناسب ، كقوله : { سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً } [ الإنسان : 4 ] . كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

وقرأ أبو محمد{[54645]} المروزي وكان نحويًّا : «خُضَّار » ك «ضُرَّاب » بالتشديد ، و«أفْعَل ، وفُعَّال » لا يعرب{[54646]} .

قوله : «وعَبْقريٍّ حِسَان » .

الجمهور على أن «عبقري » منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنها بلد الجن .

قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن «عَبْقَرَ » قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل .

وقال الخليل : كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري .

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر - رضي الله عنه - : «فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه »{[54647]} .

وقال أبو عمرو بن العلاء ، وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : «فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه » ؛ فقال : رئيس قوم وجليلهم .

وقال زهير : [ الطويل ]

بِخَيْلٍ عليْهَا جنَّةٌ عبْقريَّةٌ *** جَدِيرُونَ يوماً أن ينَالُوا فَيستعْلُوا{[54648]}

وقال الجوهري : «العَبْقَري » موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن ؛ قال لبيد : [ الطويل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كُهُولٌ وشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ{[54649]}

ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته ، فقالوا : «عبقري » وهو واحد وجمع .

وفي الحديث : «أنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ على عَبْقَرِيّ »{[54650]} وهو البُسُط التي فيها الأصباغ ، والنقوش ، والمراد به في الآية : قيل : البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل : الزَّرابي .

وقيل : الطَّنافس .

وقيل : الدِّيباج الثَّخين .

و«عَبْقَرِي » جمع عبقرية ، فيكون اسم جنس كما تقدم في «رفرف » .

وقيل : هو واحد دالّ على الجمع ، ولذلك وصف ب «حِسَان »{[54651]} .

قال القرطبي{[54652]} : وقرأ بعضهم : «عَباقِريٌّ حِسَان » وهو خطأ ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته .

وقال قطرب : ليس بمنسوب ، وهو مثل : «كُرسيِّ وكَراسِيّ ، وبُختيِّ وبخاتِي » .


[54628]:ينظر الدر المصون 6/249.
[54629]:ينظر: الصحاح 4/1366.
[54630]:ينظر: المفردات 289.
[54631]:ذكره البغوي في "تفسيره" (11/278).
[54632]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 17/124.
[54633]:تقدم.
[54634]:ينظر: القرطبي 17/124.
[54635]:ينظر: الدر المصون 6/250.
[54636]:ينظر: المحرر الوجيز 5/236، والبحر المحيط 8/197، 198، والدر المصون 6/250.
[54637]:في أ: العوفي.
[54638]:الجامع لأحكام القرآن 17/125.
[54639]:ينظر ديوانه (44)، شرح المفصل 5/60، والمحتسب 1/162، والخزانة 9/379، والخصائص 2/335، وشرح شواهد الإيضاح ص 581، واللسان (غلف)، والضرائر لابن عصفور 19، ومجمع البيان 3/317، والبحر 8/198، وروح المعاني 27/125.
[54640]:البيت لضرار بن خطاب. ينظر: الدرر 6/134، والمقاصد النحوية 4/157، والهمع 2/136، والعيني 4/157، وسيرة ابن هشام ص 622، والبحر 8/198، وروح المعاني 27/125، والدر المصون 6/250.
[54641]:ينظر: الكشاف 4/454، والبحر المحيط 8/198، والدر المصون 6/250.
[54642]:ينظر: الدر المصون 6/250.
[54643]:ينظر: إعراب القراءات السبع لابن خالويه 2/341، وجزء قراءات النبي -صلى الله عليه وسلم- للدوري 157.
[54644]:ينظر: المحرر الوجيز 5/236، والدر المصون 6/250.
[54645]:ينظر: البحر المحيط 8/198، والدر المصون 6/250.
[54646]:ينظر: الدر المصون 6/250.
[54647]:أخرجه البخاري (7/26) كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا" (3676) ومسلم (4/1860) كتاب فضائل الصحابة، باب: فضل عمر حديث (17/2392) من حديث أبي هريرة.
[54648]:ينظر شرح ديوان زهير 103، ومجاز القرآن 2/246، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 5/105، والمحتسب 2/306، ومجمع البيان 9/317، ومعجم ما استعجم 1/546، واللسان (عبقر)، والقرطبي 17/125 والبحر 8/186.
[54649]:عجز بيت صدره: ومن فاد من إخوانهم وبنيهم *** .................... ينظر ديوانه ص 70، واللسان (عبقر)، والصحاح 2/734، (عبقر) والقرطبي 17/125.
[54650]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/125).
[54651]:ينظر: الدر المصون 6/250.
[54652]:الجامع لأحكام القرآن 17/125.