التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ} (4)

( 7 ) وحي يوحى : الوحي من الإيحاء وأصل معنى الكلمة السرعة والإيعاز والإلهام والقذف بالروع . وجاءت في القرآن بهذه المعاني . وجاءت بمعنى النواميس التي أودعها الله في كائناته وخلقه . وجاءت في معرض إرسال الله الملائكة بأوامره إلى أنبيائه أو إلهام الله لأنبيائه ما يريد إلهامهم به أو قذفه في قلوبهم . والجملة هنا بأحد المعنيين الأخيرين .

( 6 ) الهوى : الرأي الذي لا يستند فيه صاحبه إلى الحق ويصدر فيه عن غاية خاصة وعاطفة وأنانية .

1

تعليق على مدى متناول آيات :

{ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }

والعصمة النبوية

وقد ذهب بعض المفسرين{[2034]} إلى أن آيتي : { وما ينطق عن الهوى3 إن هو إلا وحي يوحى } النجم [ 3-4 ] تشملان كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل ديني ودنيوي وقرآني وغير قرآني ، وجعلوهما في عداد الدلائل على العصمة النبوية . والذي نلحظه من روح الآيات وسياقها : أن الآيتين في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من اتصال وحي الله به ورؤيته الملك وما ألقاه عليه من آيات القرآن . وفي الاستدلال بها على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه من قول وعمل دنيوي وغير قرآني واعتباره وحيا ربانيا تجوز كبير يتعارض مع وقائع ونصوص قرآنية كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في أمر فيصدر عنه فيه قول أو فعل فينزل قرآن معاتبا ومنبها حينا ومذكرا حينا بما هو الأولى مثل حادث استغفاره مع المؤمنين لذوي قرباهم من موتى المشركين الذي أشارت إليه آيات سورة التوبة هذه منبهة : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم113 وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم114 }{[2035]} ومثل حادث أسرى بدر الذي أشارت إليه آيات سورة الأنفال هذه : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم67 لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم68 } ومثل حادث حلفه على عدم قرب زوجاته التي أشارت إليه آية سورة التحريم هذه : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم1 } ومثل حادث الأعمى الذي أشارت إليه آيات سورة عبس هذه : { عبس وتولى1 أن جاءه الأعمى2 وما يدركك لعله يزكى3 أو يذكر فتنفعه الذكرى4 أما من استغنى5 فأنت له تصدى6 وما عليك ألا يزكى7 وأما من جاءك يسعى8 وهو يخشى9 فأنت عنه تلهى10 }{[2036]} .

ونريد أن ننبه على نقطة هامة ، فنحن لا نعني بما نقرره ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير مما قاله أو فعله أو أمر به أو نهى عنه مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله عز وجل . ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرآن قد وقع بإلهام رباني . وأن القرآن نزل بعد وقوعه مؤيدا له فيه ، ومن الأمثلة على ذلك سيره إلى مكة لأجل العمرة مع أصحابه بناء على رؤيا رآها وانتهاء ذلك بصلح الحديبية . فقد كان ذلك بإلهام رباني ، ثم نزلت سورة الفتح مؤيدة له . ومن ذلك أيضا واقعة بدر ، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بإلهام رباني مع أصحابه للاستيلاء على قافلة قريش وأدى ذلك إلى الاشتباك مع جيش قريش الذي انتصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتصارهم العظيم . وقد نزلت بعد ذلك سورة الأنفال مؤيدة له{[2037]} . وإلى هذا فإن جميع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من سنن قولية وفعلية وأوامر ونواه مات عليها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن على ما جاء في آية سورة الحشر هذه : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ 7 ] ومن المحتمل أن يكون بإلهام رباني . وإنما الذي نعنيه التوقف في تشميل مفهوم الآيتين لكل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل وقول طيلة حياته إطلاقا حسب ما شرحناه آنفا .

وهذا لا يمس العصمة النبوية التي يجب الإيمان بها لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عليه أن يصدر منه أي قول أو فعل أو اجتهاد في مختلف شؤون الحياة والناس ، قد يكون فيه الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله ، والذي لا ينكشف له إلا بوحي ، مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن ، وإنما على المعنى الذي يرتفع به النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصمة عن أي إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن فعلا وقولا ، وعن كتم أي شيء أوحي به إليه أو تحريفه وتبديله وذلك نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق في الله الذي جعله أهلا للاصطفاء الرباني{[2038]} .


[2034]:- انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي والنيسابوري والخازن مثلا.
[2035]:- في الآية الثانية ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين اجتهدوا فقاسوا بما فعله إبراهيم عليه السلام فبين الله فيها الفرق ووجه الحق في ذلك.
[2036]:- هناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها.
[2037]:- وهناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها أيضا.
[2038]:- انظر كتابنا القرآن المجيد ص 288 -294.