تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ} (49)

أي : [ هذا ]{[22650]} القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق ، أمرًا ونهيًا وخبرًا ، يحفظه العلماء ، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [ القمر : 17 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا " {[22651]} .

وفي حديث عياض بن حمار{[22652]} ، في صحيح مسلم : " يقول الله تعالى : إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان " {[22653]} . أي : لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل ، كما جاء في الحديث الآخر : " لو كان القرآن في إهاب ، ما أحرقته النار " {[22654]} ، لأنه محفوظ في الصدور ، ميسر{[22655]} على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظًا ومعنى ؛ ولهذا جاء في الكتب المتقدمة ، في صفة هذه الأمة : " أناجيلهم في صدورهم " .

واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } ، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابًا ولا تخطه بيمينك ، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب{[22656]} . ونقله عن قتادة ، وابن جريج . وحكى الأول عن الحسن [ البصري ]{[22657]} فقط .

قلت : وهو الذي رواه العوفي عن عبد الله بن عباس ، وقاله الضحاك ، وهو الأظهر ، والله أعلم .

وقوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ } أي : ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون ، أي : المعتدون المكابرون ، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] .


[22650]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[22651]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (7274) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وسيأتي إن شاء الله.
[22652]:- في أ : "حماد".
[22653]:- صحيح مسلم برقم (2865).
[22654]:- رواه أحمد في مسنده (4/151) من حديث عقبة بن عامر. وتقدم الكلام عليه في فضائل القرآن.
[22655]:- في ت : "وميسر".
[22656]:- تفسير الطبري (21/5).
[22657]:- زيادة من ف ، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ} (49)

وقوله تعالى : { بل هو آيات بينات } إضراب عن مقدر من الكلام يقتضيه ما تقدم كأنه قال : ليس الأمر كما حبسوا { بل هو } وهذا الضمير يحتمل أن يعود على القرآن ، ويؤيده أن في قراءة ابن مسعود «بل هي آيات » ، ويحتمل أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده أن قتادة قرأ «بل هو آية بينة » على الإفراد{[9265]} ، وقال : المراد النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يعود على أمر محمد صلى الله عليه وسلم في أنه لم يتل ولا خط ، وبكل احتمال قالت فرقة ، وكون هذا كله { آيات } أي علامات { في صدور } العلماء من المؤمنين بمحمد ، يراد به مع النظر والاعتبار . و { الظالمون } و { المبطلون } ، قيل يعم لفظهما كل مكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم ، قاله مجاهد ، وقال قتادة : { المبطلون } اليهود .


[9265]:قال العلماء: ويؤيده أيضا قراءة ابن مسعود وابن السميفع: "بل هذا آيات بينات" وكان صلى الله عليه وسلم آيات لا آية واحدة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّـٰلِمُونَ} (49)

{ بل } إبطال لما اقتضاه الفرض من قوله : { إذن لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] ، أي بل القرآن لا ريب يتطرقه في أنه من عند الله ، فهو كله آيات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله لما اشتمل عليه من الإعجاز في لفظه ومعناه ولما أيَّد ذلك الإعجازَ من كون الآتي به أميّاً لم يكن يتلو من قبله كتاباً ولا يخطّ ، أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم .

فالمراد من : { صدور الذين أوتوا العلم } صدر للنبيء صلى الله عليه وسلم عبّر عنه بالجمع تعظيماً له .

و { العلم } الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوءة كقوله تعالى : { ولقد آتينا داوود وسليمان علماً } [ النمل : 15 ] . ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله ، فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطُّه الكاتبون ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كُتَّاباً للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } [ النساء : 95 ] وكذلك يكون بعد نزوله متلوّاً ، فالمنفي هو أن يكون متلواً قبل نزوله . هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو كتاباً قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن ، فذلك هو موقع قوله : { في صدور الذين أوتوا العلم } كما قال : { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ، 194 ] وقال : { كذلك لنُثَبِّت به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] .

وأما الإخبار بأنه آيات بيّنات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه ، ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله : { في صدور الذين أوتوا العلم } خبراً ثانياً عن الضمير . ويلتئم التقدير هكذا : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بيّنات . ويجوز أن يكون المراد ب { صدور الذين أوتوا العلم } صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفّاظ المسلمين ، وهذا يقتضي أن يكون قوله : { في صدور الذين أوتوا العلم } تتميماً للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بيّنات فيكون المجرور صفة ل { ءايات } والإبطال مقتصر على قوله : { بل هو آيات بيّنات } .

وجملة { وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون } تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق ، يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم ، كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين .