ثم قال منكرًا على الكفار والمشركين من قريش : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي : غفلة وضلالة { مِنْ هَذَا } أي : القرآن الذي أنزله [ الله تعالى ]{[20586]} على رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } : قال الحكم{[20587]} بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } أي : سيئة من دون ذلك ، يعني : الشرك ، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } قال : لا بد أن يعملوها . كذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وغير واحد .
وقال آخرون : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } أي : قد كتب عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة ، لتحق عليهم كلمة العذاب . ورُوِي نَحو هذا عن مقاتل بن حيَّان والسُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهو ظاهر قوي حسن . وقد قدمنا في حديث ابن مسعود : " فوالذي لا إله غيره ، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها " .
وقوله { في غمرة } يريد في ضلال قد غمرها كما يفعل الماء الغمر بما حصل فيه ، وقوله { من هذا } ، يحتمل أن يشير إلى القرآن ، ويحتمل أن يشير{[8512]} إلى كتاب الإحصاء ، ويحتمل أن يشير إلى الأَعمال الصالحة المذكورة قبل ، أي هم في غمرة من اطراحها وتركها ويحتمل أن يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل تأويل من هذه قالته فرقة ، وقوله تعالى : { ولهم أعمال من دون ذلك } الإشارة بذلك إلى الغمرة والضلال المحيط فمعنى الآية بل هم ضالون معرضون عن الحق ولهم مع ذلك سعايات فساد فوسمهم تعالى بحالتي شر ، قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية ، وعلى هذا التأويل فالإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه ، وقالت فرقة الإشارة بذلك إلى قوله : { من هذا } فكأنه قال : لهم أعمال من دون الحق ، وقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد : إنما أخبر بقوله { ولهم أعمال } عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد يستعملونها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بل قلوبهم} يعني: الكفار {في غمرة من هذا} يقول: في غفلة من إيمان بهذا القرآن {ولهم أعمال من دون ذلك} يقول: لهم أعمال خبيثة دون الأعمال الصالحة، يعني: غير الأعمال الصالحة التي ذكرت عن المؤمنين في هذه الآية، وفي الآية الأولى، {هم لها عاملون}، يقول: هم لتلك الأعمال الخبيثة عاملون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يحسب هؤلاء المشركون، من أن إمدادناهم بما نمدّهم به من مال وبنين، بخير نسوقه بذلك إليهم والرضا منا عنهم، ولكن قلوبهم في غمرة عمى عن هذا القرآن، وعنى بالغمرة: ما غمر قلوبهم فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من المواعظ والعبر والحجج. وعنى بقوله:"مِنْ هَذَا" من القرآن...
وقوله: "ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ "يقول تعالى ذكره: ولهؤلاء الكفار أعمال لا يرضاها الله من المعاصي "مِنْ دُونِ ذَلِكَ" يقول: من دون أعمال أهل الإيمان بالله وأهل التقوى والخشية له...
عن حماد بن سلمة، عن حميد، قال: سألت الحسن عن قول الله: "ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ" قال: أعمال لم يعملوها سيعملونها...
قال ابن زيد، في قوله: "ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ" قال: لم يكن له بدّ من أن يستوفي بقية عمله، ويَصْلَى به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بل قلوبهم في غمرة من هذا} قيل في عماية و جهالة وغفلة {من هذا} من الكتاب الذي كتب فيه أعمالهم، وأحصى عليهم. وقال قائلون في قوله {في غمرة من هذا} أي من هذا القرآن الذي ينطق بالحق، أي قلوبهم في عماية وغفلة من هذا القرآن. وجائز أن يكون قوله: {من هذا} من الأعمال التي ذكر للمؤمنين في ما تقدم: من ذلك قوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون...} إلى آخر ما ذكر من أعمالهم. فأخبر أن قلوب أولئك الكفرة في غفلة وعماية عن الأعمال التي عملها المؤمنون، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وهذا إخبار منه تعالى بما يكون منهم في المستقبل من الأعمال القبيحة، زائدة على ما ذكره وحكاه أنه فعلهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها {مِنْ هذا} أي مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين {وَلَهُمْ أعمال} متجاوزة متخطية لذلك، أي: لما وصف به المؤمنون {هُمْ لَهَا عاملون} معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{في غمرة} يريد في ضلال قد غمرها كما يفعل الماء الغمر بما حصل فيه، وقوله {من هذا}، يحتمل أن يشير إلى القرآن، ويحتمل أن يشير إلى كتاب الإحصاء، ويحتمل أن يشير إلى الأَعمال الصالحة المذكورة قبل، أي هم في غمرة من اطراحها وتركها، ويحتمل أن يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل تأويل من هذه قالته فرقة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي: فلا يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم، فإن الله يمهلهم ليعملوا هذه الأعمال، التي بقيت عليهم مما كتب عليهم، فإذا عملوها واستوفوها، انتقلوا بشر حالة إلى غضب الله وعقابه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما يغفل الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسسها نوره المحيي، لانشغالها عنه، واندفاعها في التيه؛ حتى تفيق على الهول، لتلقي العذاب الأليم، وتلقى معه التوبيخ والتحقير...فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة؛ إنما العلة أن قلوبهم في غمرة، لا ترى الحق الذي جاء به القرآن، وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به: (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون)..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد فسر بعضهم الغمرة بالغفلة التي غمرتهم، وهو تفسير حسن، وقد غفلوا أولا عن الكتاب الذي يكتب الحسنات والسيئات، أو علم الله تعالى الذي لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها، وغفلوا عن رقابة الله تعالى لأعمالهم وغفلوا عن أعمال المؤمنين واستقامة قلوبهم، وهم أناس مثلهم، قد سبقوهم في الفضل وشرف الإيمان، والمسارعة في الخيرات والسبق فيها، وأنهم قد سارعوا في الكفر، كما سارع المؤمنون في الخيرات، وسبقوا إليها، فكان لهم في الكفر أعمال كثيرة منها: أنهم حرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله تعالى، كما حرموا السائبة والوصيلة والبحيرة..، ومنها: أنهم جعلوا للأوثان نصيبا من الحرث، ومنها: أنهم صدوا عن سبيل الله، ومنها: أنهم فتنوا المؤمنين في دينهم، ومنها: أنهم آذوهم وأخرجوهم، ومنها: أن رءوسهم صارت عشا للخرافات والأوهام؛ ولذا قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} وقد أشرنا إلى بعض هذه الأعمال. ومنها: طوافهم بالبيت عراة، وادعاؤهم أن الله تعالى أمر بها {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا... (28)} [الأعراف]،
... ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم، إنما تحتوي القلوب: {بل قلوبهم في غمرة} وهذه بلوى أعظم، لأن القلب محل لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل، ويميز بينها ويختار منها ويرجح، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هديها تسير في حركة الحياة. لذلك إن كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشد والبلاء أعظم، لأنه مستودع العقائد والمبادئ التي تنير لك الطريق. والقلب هو محل نظر الله إلى عباده، لذلك يقول سبحانه: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها.. (179)} [الأعراف]. وقال سبحانه: {ختم الله على قلوبهم.. (7)} [البقرة]: لأنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه، ولأنه سبحانه رب متول ربوبية الخلق، يعطيهم ما أرادوا حتى إن كان كفرا، لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، لأنهم عشقوا الكفر وأحبوه...
إذن: إذا كانت القلوب نفسها في غمرة، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك، وقد أخذ القلب هذه الأهمية، لأنه معمل الدم، ومصدر سائل الحياة، فإن فسد لا بد أن ينضح على باقي الجوارح، فتفسد هي الأخرى، ولو كان القلب صالحا فلا بد أن ينضح صلاحه على الجوارح كلها فتصلح، كما جاء في الحديث الشريف:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ثم يقول سبحانه: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا، وإن كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم، لكن ربهم- عز وجل- يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون.
ومن عجائب قدرة الله أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا، ومع ذلك لم يعاند أحد الكفار، فيقول: إن الله حكم عليّ بكذا، ولكني لن أفعل فيكون حكم الله عليه غير صحيح، لأن الحق سبحانه لا يتحكم فيما يجريه علينا فحسب، وإنما في اختيار العبد ومراده، مع أن العبد حر في أن يفعل أو لا يفعل. وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب: {تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3)} [المسد] فقوله: {سيصلى نارا.. (3)} [المسد]: تفيد المستقبل، فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه سيكون في النار، وكان أبو لهب في أمة ومجمع من القوم الكافرين، ومنهم من آمن، فمن يضمن أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك لا يؤمن ويموت كافرا؟ ثم ألم يكن بإمكان هذا (المغفل) أن يقف على ملأ ويقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله "ويدخل في الإسلام، فيكون الحكم فيه غير صحيح؟ لكن هذا كلام الله وحكمه القديم لا يرد ولا يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الاختيار، هذا من طلاقة قدرة الله في فعله وعلى خلقه في أفعالهم. فالمعنى: {هم لها عاملون} حكم لا يرد ولا يكذّب، حتى وإن أخبر به صاحبه، لأن علم الله تعالى مستوعب لما كان ولما سيكون، وكأن الحق سبحانه يقول: إن طلاقة القدرة ليست فيما أفعله فحسب، إنما فيما يفعله غيري ممن أعطيته حرية الاختيار.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا} وهم المشركون أو المنحرفون عن الخطّ الذين لا يأخذون بأسباب الخير في ما يفعلون ويتركون، بل يعيشون في واقعهم الغفلة المطبقة لسيطرة الجهل على عقولهم، والغفلة تلك تستغرق كل أفكارهم ومشاعرهم، فتحجب عنهم وضوح الرؤية، وتصدّهم عن اكتشاف ما هو الخطأ والصواب في الأمور، وتمنعهم من التفكير في ذلك كله.. {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ} فالذين لا يسارعون في الخيرات، يقومون بخلاف أعمال المؤمنين، فهم يبادرون إلى الأعمال الرديئة الخبيثة التي لا تتناسب مع إنسانية الإنسان، ومع مصلحة الحياة وطهارتها.. {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} يختارون القيام بها عن سابق قصدٍ وتصوّرٍ وتصميم، ما يوحي بأن أعمالهم تلك ترتكز على قاعدةٍ نفسيّةٍ معقّدة ضد الخير، ومنفتحةٍ على الشر.. وهم يصرّون على أعمالهم تلك دون أيّ حساب للنتائج السلبية التي تترتب عليها على مستوى المصير، كما لو كانوا يحملون الأمان بأيديهم..