مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَلۡ قُلُوبُهُمۡ فِي غَمۡرَةٖ مِّنۡ هَٰذَا وَلَهُمۡ أَعۡمَٰلٞ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمۡ لَهَا عَٰمِلُونَ} (63)

وأما قوله تعالى : { بل قلوبهم في غمرة من هذا } ففيه قولان : أحدهما : أنه راجع إلى الكفار وهم الذين يليق بهم قوله : { بل قلوبهم في غمرة من هذا } ولا يليق ذلك بالمؤمنين إذ المراد في غمرة من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين ولهم أي لهؤلاء الكفار أعمال من دون ذلك أي أعمال سوى ذلك أي سوى جهلهم وكفرهم ثم قال بعضهم أراد أعمالهم في الحال ، وقال بعضهم بل أراد المستقبل وهذا أقرب لأن قوله : { هم لها عاملون } إلى الاستقبال أقرب وإنما قال : { هم لها عاملون } لأنها مثبتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الله من الشقاوة . القول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون { ولدينا كتاب } يحفظ أعمالهم { ينطق بالحق وهم لا يظلمون } بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم { بل قلوبهم في غمرة من هذا } هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه إما أعمالا قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل ، ثم إنه سبحانه رجع بقوله : { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } إلى وصف الكفار .

واعلم أن قول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا ، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما قد يحذر بذلك من الشر ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر . فإن قيل فما المراد بقوله من هذا ، وهو إشارة إلى ماذا ؟ قلنا هو إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم مع أنهما مستوليان على قلوبهم .