وقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي : في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها . وهكذا روي عن ابن عمر ، وأبي مالك ، ومجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من السلف .
وقوله : { حكيم } أي : محكم لا يبدل ولا يغير ؛ ولهذا قال : { أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا }
وقوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا } معناه : يفصل من غيره ويتخلص ، وروي عن عكرمة في تفسير هذه الآية أن الله تعالى يفصل للملائكة في ليلة النصف من شعبان ، وقال الحسن وعمير مولى غفرة ومجاهد وقتادة : في ليلة القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك ، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل . قال هلال بن يساف كان يقال : انتظروا القضاء من شهر رمضان . وروي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الرجل يتزوج ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى ، لأن الآجال تقطع في شعبان »{[10222]} .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش : «يَفرُق » بفتح الياء وضم الراء . و : { حكيم } بمعنى محكم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فِيها يُفْرَق كُلّ أمْرٍ حَكِيم" اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله: "فِيها "عائدة على الليلة المباركة، فقال بعضهم: هي ليلة القدر، يُقْضَى فيها أمر السنة كلها؛ من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة... وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر لما قد تقدّم من بياننا عن أن المعنِيّ بقوله: "إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ" ليلة القدر، والهاء في قوله: "فِيها" من ذكر الليلة المباركة.
وعنى بقوله: "فِيها يُفْرَقُ كُلّ أمْرٍ حَكِيمٍ" في هذه الليلة المباركة يُقْضَى ويُفْصَل كلّ أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة الأخرى، ووضع "حكيم" موضع محكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كل أمر حكيم} يحتمل أي كل أمر فيه حكمة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وفي يفرق أربعة أوجه:
{كل أمر حكيم} فالحكيم معناه ذو الحكمة؛ وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى، فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوئ من الأعمال قائدة إلى كل خير، بدليل أن أتباع ذوي البركة من العلماء، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل: {فيها يفرق} أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة.
{كل أمر حكيم} أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيها كل شأن، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين؛ فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح ولا مرسوم في دنيا الناس، كما هو واضح ومرسوم في الناموس الكلي القديم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فيها يُفْرَقُ كلّ أمر حكيم}...
والفرق: الفصل والقضاء، أي فيها يُفصَل كل ما يراد قضاؤه في النّاس ولهذا يُسمى القرآن فرقاناً، وتقدم قوله تعالى: {فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين} في سورة المائدة (25)، أي جَعل الله الليلة التي أنزل فيها القرآن وقتاً لإنفاذ وقوع أمور هامة مِثل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لتلك المقضيات وتشريفاً لتلك الليلة.
وكلمة {كلّ} يجوز أن تكون مستعملة في حقيقة معناها من الشمول، وقد علم الله ما هي الأمور الحكيمة فجمعها للقضاء بها في تلك الليلة وأعظمها ابتداء نزول الكتاب الذي فيه صلاح الناس كافّة ويجوز أن تكون {كل} مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال في كلام الله تعالى وكلام العرب وقد تقدم في قوله تعالى في سورة النمل (23) {وأوتيت من كل شيءٍ} أي فيها تُفْرَق أمور عظيمة.
والظاهر أن هذا مستمر في كل ليلة توافق عدّ تلك الليلة من كل عام كما يؤذن به المضارع في قوله {يُفْرق}، ويحتمل أن يكون استعمال المضارع في {يفرق} لاستحضار تلك الحالة العظيمة كقوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48].
والأمر الحكيم: المشتمل على حكمة من حكمة الله تعالى أو الأمر الذي أحكمه الله تعالى وأتقنه بما ينطوي عليه من النُّظُم المدبرة الدالة على سعة العلم وعمومه. وبعض تلك الأمور الحكيمة يُنفِذُ الأمرَ به إلى الملائكة الموكلين بأنواع الشؤون، وبعضها يُنفذ الأمر به على لسان الرّسول مدة حياته الدنيوية، وبَعْضاً يلهمُ إليه من ألهمه الله أفعالاً حكيمة، والله هو العالم بتفاصيل ذلك.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.